حكومة المستقبل.. حكومة التنمية الاجتماعية

فى الخمسينات من القرن الماضى، صاغ وزير الدفاع الأمريكى الأسبق «روبرت ماكنمارا» عبارته الشهيرة «الأمن القومى هو التنمية». غير أن مفهوم «ماكنمارا» للتنمية قد ارتكز على بعدها الاقتصادى، الذى يتمثل فى رفع مستوى معيشة الحياة فى المجتمع بشكل عام، فلم يفطن إلى أهمية التنمية فى شقها الاجتماعى والثقافى. والواقع أن مفهوم «الأمن القومى» يتسع ليشمل التنمية المجتمعية بمختلف جوانبها، أى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ذلك أن قدرة أى مجتمع على مواجهة ضروب التهديد التى يتعرض لها، سواء من الخارج أو الداخل، تتوقف إلى حد كبير على درجة الاستقرار السياسى، ونوعية التماسك الاجتماعى، وغياب الصراع الثقافى الحاد، واطراد معدلات التنمية. بل إن التنمية بمفهومها الاجتماعى الثقافى تعاظمت أهميتها فى الوقت الحالى، فى ظل عصر العولمة والنزعة المادية المفرطة للمجتمعات المعاصرة، وفتور الوشائج الأسرية وعلاقات الصداقة وتراجع الألفة، والاتصال المباشر، والمشاعر الفياضة، وتنميط لغة التعبير عن اهتمام الأصدقاء ببعضهم بعضاً حول مسارات حياتهم ومشاكلهم، وفى أفراحهم وأتراحهم.

ولقد أدركت العديد من الحكومات التحديات التى تواجهها المجتمعات المعاصرة؛ ففى المملكة المتحدة، وفى شهر يناير الماضى، أنشأت بريطانيا وزارة العزلة (Ministry of loneliness)، التى تعتبر أول وزارة من نوعها فى العالم، للتعامل مع مشكلة الوحدة التى يعانى منها نحو تسعة ملايين شخص فى المملكة المتحدة. وفى دولة الإمارات العربية المتحدة، فى شهر مارس الماضى، اعتمد مجلس الوزراء «السياسة الوطنية للأسرة» وشكل مجلساً تنسيقياً اتحادياً محلياً لتطبيقها. وتواجه الدول الآسيوية مشكلة الشيخوخة الزاحفة سريعاً، حيث تزيد فيها نسبة المسنين بدرجة كبيرة. إذ تصل هذه النسبة إلى 28% من السكان فى اليابان. ومن المتوقع أن تصل النسبة فى كوريا الجنوبية إلى 20% بحلول العام 2030م. أما الصين، فهى تشيخ بمستوى أسرع من أى بلد آخر فى التاريخ الحديث. وتتحول قضية رعاية المسنين فى اليابان إلى مشكلة بمرور الزمن، نتيجة ارتفاع أعدادهم ونظراً لعزوف الشباب عن العمل فى خدمات التمريض، الأمر الذى استدعى اللجوء إلى الروبوت للقيام بخدمات التمريض ورعاية المسنين، بديلاً عن الإنسان. وهناك نماذج من تلك الروبوتات، منها روبوت «بارو» المتخصص فى رعاية المسنين المصابين بألزهايمر، وروبوت «روبير» الذى يقوم بنقل المرضى من السرير إلى الكرسى المتحرك. وهكذا، فإن البشر فى المستقبل سيجدون أنفسهم فى تعامل دائم مع الآلة، دون أى اتصال بشرى، الأمر الذى يقضى على المشاعر الوجدانية والدفء العاطفى. ومن ثم، بدأ بعض العلماء يحذرون من تحول البشر إلى «إنسان آلى» مجرد من الإحساس والمشاعر. وفى مصر، بلغت ظاهرة الطلاق مستوى مخيفاً، بمعدل 250 حالة يومياً، محتلة بذلك المرتبة الأولى عالمياً. وبلغة الأرقام، يوجد فى المجتمع المصرى نحو أربعة ملايين مطلقة وتسعة ملايين طفل ضحية الانفصال.

إن التنمية الاجتماعية ينبغى أن تكون الهم الأكبر والشغل الشاغل لحكومات الحاضر، إذا أرادت أن يكون لها مكان فى المستقبل. ولا يكفى فى الحالة المصرية أن يكون لدينا وزارة للتضامن الاجتماعى. المأمول هو أن تكون لدى الحكومة استراتيجية شاملة للتنمية الاجتماعية.. والله من وراء القصد.