تدهور العامية المصرية من "نهارك سعيد" إلى "صباحو فل"

صبري خالد

صبري خالد

كاتب صحفي

كثيراً ما تُعتَبَر اللغة العربية عائلةً لُغويةً وليست لُغةً واحدةً. يكون التعليم بالمدارس الرسمية غالباً باللغة الفصحى، وتكون الكتابة في الصحف بالفصحى المعاصرة، غير أن لكل منطقةٍ أو بلد لهجتها المختلفة عند الحديث، وتفصل بين تلك اللهجات مسافاتٌ كفيلةٌ بجعلها غير مفهومةٍ بشكلٍ كامل في كل البلدان.

وتختلف اللهجات على كل الأصعدة، بدءاً من قواعد اللغة ووصولاً إلى المفردات وطريقة النطق. وتُعد اللهجة المصرية الأسهل من بين لهجات العرب، وتتميَّز بحرف الجيم القاهرية المخفف والذي تُعطِّشه معظم اللهجات الأخرى.

وكمعظم اللهجات الأخرى، فإن العامية المصرية تأثَّرَت كثيراً بالتاريخ المحلي. اجلس مثلاً في أي مقهى وسيُحييك النادل غالباً بلقب (باشا)، وهي كلمةٌ مُستعارةٌ من اللغة التركية. اطلب (الفاتورة) أو ارتدِ (الجوانتيات)، وها أنت ذا تستخدم كلماتٍ من اللغة الإيطالية، وهكذا…".

لطالما سيطرت اللهجة المصرية المميزة على المنطقة، عبر أفلام السينما، وعبر أقلام كُتابها الكبار كالعقاد وطه حسين، وغيرهما من كُتاب شكلوا تاريخياً الوجدان العربي. ويُعبِّر تراجع الدور المصري في المشهد السياسي والاقتصادي؛ ومن ثم الثقافي، في منطقة الشرق الأوسط التي لا تهدأ، عن تراجع تأثير مصر في المنطقة اليوم.

خلال الأربعينيات من القرن الماضي، اعتادت أغلب الشعوب العربية المصريين ولهجتهم في الكلام. كانت صناعة السينما المصرية خلال الخمسينيات، ثالث كبرى صناعات السينما في العالم. فكانت نجماتٌ مثل فاتن حمامة وهند رستم يُبكيان ويُضحكان جمهورهما من طرابلس إلى دمشق. ولم تكن الموسيقى المصرية تقلُّ شأناً عن ذلك. فبلغت شهرة أم كلثوم حداً جعل موعد حفلتها الشهرية المُذاعة على الراديو مساء الخميس عُطلةً لأصحاب المحلات التجارية، يُغلقون فيه محالَّهم ويتفرَّغون لسماعها.

وليست هذه مصادفةً.. فقد ساعدت دعاوى القومية العربية في نشر اللهجة المصرية. ففي أثناء تطلُّع الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، إلى ترسيخ مفهوم العروبة، أرسل مئات المُعلِّمين المصريين للجزائر؛ أملاً في أن يتخلَّى الجزائريون عن فرنسا ولهجتها الإمبريالية .ولا يزال المصريون فخورين بلهجتهم، التي تتمتَّع بشهرةٍ أكبر من باقي لهجات المنطقة. وفيما تُقدَّم النشرات بالعربية الفصحى، يتجادل المعلِّقون حول السياسة بالعامية المصرية. ويُمكن إرجاع ذلك جزئياً للتعليم. ففي ظلِّ أُميَّةٍ تنتشر بنسبة 24% من السكان، يصعب على كثيرٍ من المصريين استخدام الفصحى بسلامة في أحاديثهم، حتى إن بعض اللُغويين يقترحون التدريس بالعامية في المدارس؛ لتحسين مستوى الفهم".

والمعروف أنه خلال الستينيات والسبعينيات، اشتُهر شعراء العامية الذين دعموا المشروع الناصري، وفي مقدمتهم صلاح جاهين وفـؤاد حداد، ومن بعدهما جاء جيل من الموهوبين في شعر العامية من أمثال عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وغيرهما، والذين كانت أشعارهم تلقى في المحافل الأدبية وتغنى بأصوات كبار المطربين من أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة وفايزه أحمد.

ويمكن أن نضيف أن الروائيين المصريين استخدموا العامية منذ زمن وإن كان ذلك "على استحياء"، حيث ابتكر نجيب محفوظ، الحائز جائزة نوبل في الأدب، لغة فصحى بسيطة، أقرب للعامية، يمكن فهمها بسهولة في رواياته المتنوعة. كما أن كتّاب المسرح، كيوسف إدريس وألفريد فرج ونعمان عاشور، استخدموا العامية في مسرحيات الستينيات التي شهدت ازدهار المسرح المصري".

تراجع العامية المصرية في العالم العربي، ليس هو كل شيء، فهناك تراجع آخر حدث لتلك اللهجة الغنية، داخل مصر نفسها، حيث انحدرت بمعانيها الراقية لمصلحة تعبيرات وكلمات جديدة ليست في المستوى نفسه لرقي تلك التي اعتدنا سماعها في الأفلام القديمة.

أفلام تجارية هابطة، أغاني مهرجانات تبحث عن تعبيرات غريبة لجذب الناس، وانتشار أشكال درامية مختلفة بلهجات أخرى، مثل المسلسل السورى (باب الحارة)، تُحقِّق نجاحاً منقطع النظير حتى في مصر. وتتم دبلجة المسلسلات التركية الأكثر رواجاً إلى العامية السورية كذلك. كما اتخذت الموسيقى العربية المنحى نفسه.

وهنا يمكن أن نذكر أنه بعد أن كانت فيروز استثناءً لبنانياً مميزاً ضد سطوة اللهجة المصرية، صارت مطربات لبنانيات وخليجيات، نجوماً يغنين بلهجاتهن المحلية، وينجحن داخل مصر كما في أنحاء العالم العربي. كما يحقق مطربو الخليج ولبنان والمغرب وتونس الآن نجاحاً كبيراً، لم يكن معروفاً في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت المنطقة تعتاد سماع المطربين العرب من خارج مصر، وساعدت الفضائيات على نشر لهجات أخرى كذلك. وهكذا مثلاً، انتقل المطرب محمد عساف من معسكر لاجئين بغزة إلى قمة الشهرة بعد فوزه في برنامج عرب أيدول، بعد أن غنى مفتخراً بلهجته الفلسطينية، قائلاً: (علِّ الكوفية)".

هناك أسباباً عدة لتدهور اللهجة المصرية منها سيطرة الرأسمالية بشكل عام على صناعة الميديا، فقد أصبح رجال التجارة هم ملاك المؤسسات الإعلامية، فركزوا على تقديم المنتج الإعلامي الجاذب للمشاهدة، بغض النظر عن محتوى هذه الرسالة الإعلامية، أو اللغة الإعلامية المُقدمة؛ ما دامت تحقق نسبة مشاهدة. أيضاُ تراجع دور المدرسة، حيث كانت النشاطات المدرسية، مثل المسرح المدرسي، الإلقاء والشعر والخطابة، تلعب دوراً في تنمية الذوق لدى الطلاب فما اللغة إلا وسيلة للتعبير عن فكر الشعوب وثقافتها.

وتلك لمحةٌ مؤسفةٌ تشير إلى ما انحدرت إليه اللهجة المصرية بعد هذا التفاؤل الثري والانتشار الواسع بكل ربوع الوطن العربى.