فى الدستور: هل سيتحول المصرى من «فرد» إلى «مواطن»؟!
لن تتجاوز مصر مرحلة التحول النوعى التى يرتهن به مصيرها ومستقبلها، دون تشكيل «نموذج سياسى اجتماعى جديد» يتحول معه المصرى فى الدستور الجديد من «فرد» إلى «مواطن»!
إن تحول المصرى من «فرد» إلى «مواطن» ليس مستحيلاً مثل استحالة تحول «الطائر الضعيف» إلى «نسر ذهبى»، بل هو مجرد أمر ممكن يحتاج فقط إلى إرادة ورغبة وبعض المجاهدة.
لكن ما «الفرد»»؟
هو شخص هش ضعيف ليس له حقوق، وهو مثل عمال الترحيلة أو الفلاح القديم، لكنه «لئيم» يحتال على الإقطاعى ويحتال على السلطة، هذا هو مفهوم «الفرد» القديم، أما «الفرد» الجديد، فهو شخص مجادل كسول مهمل ليست عليه واجبات، لكنه يريد كل شىء دون أن يفعل أى شىء! يطالب بحقوقه لكنه لا يلتزم بأى مسئوليات، والمصلحة العامة عنده تتعارض مع المصلحة الخاصة.
وطبعاً سوف يختلف الجمع، البعض سيرى أن المصرى فى زمننا الميمون «فرد» بالمعنى القديم، والبعض الآخر سيرى أنه «فرد» بالمعنى الجديد، والبعض الثالث سيخرج بمعنى آخر للفرد.
أما الفصيل، صاحب نظرية «ضجيج بلا طحن» فسيجزم أنه ليس «فرداً» بأى معنى.. عيب يا دكتور!
لكن فى كل الأحوال لا أظن أن أحداً من قراء الدساتير الغربية سيعرفه بأنه «مواطن» بالمعنى الدقيق فى الفلسفة السياسية المعاصرة والذى ينص على أن المواطن هو شخص يتمتع بـ«العضوية كاملة الأهلية» على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون فى الوطن نفسه مساواة كاملة فى الحقوق والواجبات، وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف المالى أو الانتماء، ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع مع التنوع والاختلاف، دون إقصاء أو تكفير أو تخوين، ويعمل الكل وفق قوانين الفريق الواحد (أفكار متنوعة ومراكز ومهارات مختلفة لكن الهدف واحد)، وإذا كان لا مفر من وجود فريقين، فكلاهما يتمتع بالروح الرياضية وتقبل الهزيمة أو يتحلى بأخلاق المنتصر الشريف دون كبر أو علو فى الأرض.
أرجوكم.. هل هذا التعريف للمواطن كامل الأهلية ينطبق على المصرى؟
هيا بنا نقوم بشىء من التحليل.. فإذا كنا نتفق أن «الإرهابى» ليس مواطناً، فربما نتفق أيضاً أن هؤلاء ليسوا مواطنين: الشخص «المهمل» فى عمله، أو الذى يبيع صوته فى الانتخابات، أو الذى ينتمى إلى قطيع ينفذ الأوامر البشرية باعتبارها أوامر إلهية، أو الذى ينعق، مردداً شعارات وهمية، أو الذى يعطل مصالح الناس، أو الذى يتسبب فى قطع أرزاقهم، أو الذى يسير عكس الاتجاه أو يعطل حركة المرور، أو الذى يشيع العشوائية سواء بسلوكه أو بمبانيه أو ببروزات محله أو بدخان سيارته أو مصنعه أو ورشته (فوضى الشارع تعكس الفوضى العامة فى كل القطاعات)، والذى يلفق خبراً كاذباً.. وأيضاً ذلك الكائن الغريب الذى رأيناه بعد ثورة يناير لا صلة له بالمواطن؛ ذلك الكائن الفوضوى المنفلت الشتام الخارج على القانون والآداب الوطنية ويكسر مبادئ الذوق العام ويعتدى على الممتلكات العامة وحقوق الآخرين.. والقائمة كاملة الأوصاف طويلة!
أكيد أى «فرد» من هؤلاء ليس مواطناً، والسؤال: كم مصرياً ينطبق عليه أحد هذه الأوصاف؟! والسؤال الأهم: هل يمكن للدستور أن يغير المصريين؟
ربما يختلف معى بعض فقهاء الدستور باعتبار أن هذا ليس من وظيفة الدساتير، وربما يكون معهم بعض الحق أو كله.
لكن أنا -العبدالفقير- لى وجهة نظر أخرى؛ فأنا من هؤلاء الذين يعتقدون أن تغيير «الفكر» لا بد أن يؤدى إلى تغيير «السلوك»، ومن هنا فالأمل فى دستور يغير فكر الناس، وإذا كنا لم نستطع تغيير سلوكهم، فربما نستطيع تغيير أفكارهم؛ حتى تسهل عملية تغيير سلوكهم. والدستور لا يتحدث (من هذه الزاوية) عن «ما هو كائن» بل يتحدث عن «ما ينبغى أن يكون».
ومن هنا لا بد من أن يضبط الدستور الجديد فكرة «المواطن» ليس فقط من أجل ضبط الحياة السياسية المستعصية على كل حل، ولكن أيضاً من أجل ضبط حياة الناس التى صارت عشوائية فى بر مصر، وإذا كان المصرى على الأرض ليس «مواطناً»، فيمكن أن يتحول -حتى ولو على الورق- إلى مواطن.. لقد يئست ويئس معى الكثيرون من الواقع الذى نعيشه، لكن بقى عندى وعند الكثيرين الأمل فى «الورق»!
فهل يمكن أن يتحول المصرى على «الورق» إلى كائن عاقل وليس «فرداً»، وإلى كائن له حقوق وليس «فرداً» مُهْمَلاً، و«مواطن» عليه مسئوليات وواجبات وليس حيواناً أليفاً يُقتنى.
إن مفهوم «المواطن كامل الأهلية» هو الذى يشكل جوهر الدساتير الديمقراطية التشاركية فى الديمقراطيات الحقة، ويشغل المساحة الأكبر فيها، ولا قيمة لكل ذلك بدون تعزيز قبول الأفراد بالالتزام السياسى والاجتماعى.. فلا حقوق بدون مسئوليات.
وهنا يجب أن نتذكر النقاش حول حقوق الإنسان فى برلمان الثورة الفرنسية 1789 ؛ حيث ثار المطلب حول أنه إذا تم الإعلان عن حقوق الإنسان، فيجب تضمينه مسئولياته أيضاً، وإلا سوف نجد فى النهاية الجنس البشرى لديه فقط حقوق سيستغلها كل فرد أمام الآخرين، ولن يعود هناك من يعرف أنه بدون مسئوليات لن تقوم للحقوق قائمة، فليست فقط حقوقاً (كحق التصويت، وحق تولى الوظائف العامة)، بل أيضاً مسئوليات (كواجب دفع الضرائب وواجب الدفاع عن الوطن وواجب صيانة المرافق العامة واحترام القوانين والآداب وتقديس حقوق الآخرين وحرياتهم.. .إلخ).
فهل نحن لدينا فعلاً إرادة تغيير أنفسنا؟ وكيف يمكن أن تكون «المسئوليات» الواقعة علينا واجبة مثل وجوب «الحقوق» التى نطالب بها؟ وهل سيعى «الدستور الجديد» هذا الدرس الفرنسى؟