النقش على النحاس: ورشة يتيمة تضىء شارع المعز

كتب: محمد الخولى وعبدالفتاح فرج

النقش على النحاس: ورشة يتيمة تضىء شارع المعز

النقش على النحاس: ورشة يتيمة تضىء شارع المعز

فى زاوية صغيرة بحارة الصالحية بمنطقة خان الخليلى، يجلس تامر مجدى حسن فى دكانة ضيقة مندمجاً فى النقش على النحاس، تسرح أصابعه بخفة على الأطباق فترسم فناً رائعاً. عالم خاص ورثه عن أجداده منذ عشرات السنين. عشقوا هذا الفن المصرى الأصيل فبادلهم عشقاً بعشق، حيث بدأت قصة العائلة مع الفن الزخرفى فى بداية العشرينات من القرن الماضى، تعلم والده وظل يعمل مع جده فى المحل حتى أصبح أكبر صنايعى فى النقش على المعادن الثمينة فى منطقة خان الخليلى، ونال شهرة كبيرة وذاع صيته فى مصر وخارجها، خصوصاً فى الستينات التى تعتبر العصر الذهبى للنقش والزخارف وكل الصناعات اليدوية، وبعد وفاة جده ترك لأبيه ميراثاً ثميناً من مشغولات نحاسية وأدوات نقش حديدية عتيقة تعبر عن قدم الدكانة. يفخر تامر بما ورثه عن أبيه وجده ويقول «إن هذه الأدوات لا تقدر بثمن وعرض علىّ الكثيرون شراءها بأثمان كبيرة لكننى رفضت، والدى كان عصامياً، بنى نفسه بنفسه، وكان حريصاً على إتمام دراستنا الجامعية».[Image_2] يتذكر تامر مجدى ذو الـ 37 عاماً أول يوم دخل فيه الورشة منذ 30 عاماً، حيث كان يحرص والده على اصطحابه معه إلى الورشة حتى «يشرب» الصنعة: «لم أقض سوى 4 سنوات حتى أتقنت النقش.. الطفل الصغير عشان يتعلم بياخذ وقت كبير.. إنما لو كان كبير مش بياخد أكثر من سنة فى التعليم، وعشان تبقى صنايعى لازم تحب الصنعة وتمارسها، وعلى قد ما هتشتغل فيها هترتاح مادياً لو كان فيه شغل والدنيا ماشية». صنايعية النقش على النحاس نادرون جداً، ولو قلنا إنه لا يوجد سوى 4 صنايعية فى خان الخليلى فإننا لا نبالغ، النقش على النحاس الآن فى طريقه للانقراض لعدة أسباب، منها دخول الآلة والماكينات التى تتعدى إمكانيات «الصنايعى» فى السرعة وإنتاج كمية كبيرة من النحاس المزخرف، والعمالة أصبحت مكلفة: «الصبى بيبقى عايز فى الشهر 150 جنيه بعد ما كان بياخد فى الأسبوع 20 جنيه، والأول كانت الأطفال بتتعلم وتقعد تشوف المعلم وهو بيدق على المعدن وبيشكل وبيشرب الصنعة». يضيف تامر: أنا وأخى محاسبان فى إحدى شركات البترول إلا أننا نتناوب فتح الدكانة بشكل يومى. ولو كان سن أبنائى يسمح بالعمل معنا كنت جبتهم معايا الورشة، لأننى لن أترك مهنة والدى أبداً. يحكى تامر عن تطور المهنة: «تعتبر الستينات والسبعينات أزهى عصور صنعة النقش على المعادن الثمينة، حيث كانت المواد الخام وأدوات الصناعة رخيصة، وكان يأتى إلينا زبائن من جميع دول العالم. ومع عصر الانفتاح أواخر السبعينات بدأت المهنة تترنح إلى أن وصلت إلى هذه الحالة المتردية. كان الروس من أكثر زبائن «الدكانة» وكذلك الألمان والإيطاليون والفرنسيون، وفى رأيى أنهم أفضل ناس بيقدروا الفن اليدوى، لذا استعانوا بزميل أبى محمد على السلكاوى ليرمم نجفة نحاسية فى قصر الإليزيه وقضى هناك 5 أشهر». ويشكو مجدى من ارتفاع سعر النحاس ويقول: «زمان كان فيه نحاس مصرى اسمه القراضة، منه لونين أحمر وأصفر، وكان سعر الكيلو فى السبعينات جنيه ونص للأصفر والأحمر 4 جنيه. لكن سعر النحاس الأصفر حاليا 67 جنيه والأحمر 80 جنيه. الواحد بيشتغل فى الحتة طول اليوم يرسمها ويزخرفها، زمان كنا بنشتغل فى الجردل النحاس طول اليوم عشان نعمل الحتة بـ6 جنيه، وصوانى القلل بـ5 جنيه». يفخر تامر مجدى بما تركه له أبوه وجده ويقول: «العدة اللى أنا شغال بيها عمرها أكثر من 120 سنة. ومفيش صنايعى ولا حداد يعرف يعملها لأنها أصلية ومصنوعة بإحكام. والعدة عبارة عن وتد إسطنبولى له «بوز» عشان يوصل للأماكن الضيقة والرفيعة ويستطيع أن ينقش ويساعد على نقشها. والوتد الجلة وهو مدور حتى يستطيع نفخ قطعة النحاس فى أماكن معينة كى يشكلها. والوتد الفولة للنقش على الخواتم الذهب والفضة.. وغيرها من الأدوات الأخرى. قبل وفاة والدى كان يأتى إلى هنا عدد من الشخصيات المشهورة ليشتروا بعض التحف والمقتنيات منهم الشيخ محمد متولى الشعراوى والفنانة كريمة مختار ومجدى وهبة وخالد زكى». يبدو أن شكاوى أصحاب الحرف اليدوية فى الحسين واحدة حيث لا يعانون من ارتفاع أسعار المواد الخام فحسب، بل يشكون من عدم رواج ما يصنعونه ومن النقص الحاد فى أعداد السياح خاصة بعد الثورة وهو ما عبر عنه «خالد محمد» - 40 عاماً - الذى يجلس أمام دكان صغير فى شارع المعز ينقش ويرسم بخفة. تعلم المهنة منذ 25 عاماً، ولد فى منزل ثقافى، والده فنان تشكيلى، وفى اعتقاده أنها أفضل مهنة فى التاريخ لأنها ترضى غروره ومجالها واسع: «أشعر بالفخر عندما يجلس إلى جانبى سائح أو زائر وهو معجب جداً بالطريقة التى أعمل بها، فأى مهنة أخرى ليس فيها جديد، لكن مهنتنا طريقها مفتوح، وفيها فن وابتكار وإبداع، هذا الإبداع يعانى منذ عام ونصف بسبب عدم وجود سياحة فى المنطقة، ونضطر لبيع المشغولات والنحاسيات بنصف الثمن، ولم ندفع إيجار المحل منذ 8 شهور حتى أوشك صاحب المحل على طردنا منه». يتابع تامر: «بعد غرق شارع المعز بمياه الصرف الصحى انطفأت المصابيح التى كانت موضوعة بجوار المبانى الأثرية من أسفل بسبب غمرها بالمياه وهذا سبب مفهوم وواضح لكن غير المفهوم هو انطفاء المصابيح التى كانت موضوعة أعلى المبانى، وورشتنا هى المكان الوحيد المضىء فى الشارع، وأرى بنفسى السياح يعزفون عن دخول الشارع مساء خوفاً من الظلام ومن الوضع الأمنى بالبلاد. حرام نعمل كدا فى مصر، لما بتكون الدنيا شغالة بيكون فيه إقبال وسياحة وبالتالى دخل جيد».