محمود الكردوسى يكتب: أم كلثوم.. أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق

محمود الكردوسى يكتب: أم كلثوم.. أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق
- أم كلثوم
- الإنشاد الدينى
- كوكب الشرق
- كلثوم
- ذكرى رحيل أم كلثوم
- سيرة الحب
- أغاني أم كلثوم
- أم كلثوم
- الإنشاد الدينى
- كوكب الشرق
- كلثوم
- ذكرى رحيل أم كلثوم
- سيرة الحب
- أغاني أم كلثوم
فى بيت متواضع من طابق واحد فى شارع «داير الناحية»، قرية طماى الزهايرة- دقهلية، وُلدت «أم كلثوم» لمؤذن مسجد القرية ومنشد تواشيحها، الشيخ إبراهيم السيد البلتاجى. يقولون إن الموجة فى البحر تتوقف ساعة ولادة البنت: أهى خرافة؟.. ربما. لماذا تطوع الحاضرون إذن وقدموا عزاءهم للرجل: «معلهش.. رزقها برزقين»؟. يقولون أيضاً إن الشيخ إبراهيم رأى فى المنام سيدة تجللها ثياب بيضاء ويشع وجهها نوراً تعطيه جوهرةً وتطلب منه أن يحافظ عليها، فلما سألها: من أنت؟.. قالت السيدة: «أنا أم كلثوم.. ابنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام». ويرى عباس محمود العقاد أن معانى الـ«كلثوم» فى العربية تتعدد، لكنه يختار منها «الحرير» الذى يوضع على رأس العلم. أما بديع خيرى فيصوغ السؤال زجلاً بديعاً بالفعل:
[مين هوّه كلثوم ده يا بخته
اللى انتى اسماً تبقى أمه
واللى انتى فعلاً ولا أخته
ولا بنت خاله ولا عمه!].
[1]
مضت الأيام، ودرجت الطفلة فى صحن البيت، وأخذت تخطو خارجه خطوات رقيقة لينة، تشتد أحياناً فتصل بها إلى شجرة الجميز. ومن الحصاد إلى جنى القطن إلى «جلابية العيد» إلى «مهلبية» شيخ البلد.. هجست طماى الزهايرة: «والله البت أم كلثوم صوتها حلو». وكانت فى العاشرة من عمرها عندما كلف الشيخ إبراهيم أحد مشايخ البلد بعمل «حجاب» لأم كلثوم، يقيها شر الحاسدين. وفى الطريق إلى «الكتاب» تناهى إليها صوت الشيخ أبوالعلا محمد من الفونوجراف القديم الذى تدور عليه أسطوانات عمدة البلد المشروخة: «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا».. «غيرى على السلوان قادر».. «وحقك أنت المنى والطلب». ولكى تفر من جحيم الكتاب وخدمة «حرم» سيدنا.. وضعت أم كلثوم الملح فى عينيها فلم يأتِ بنتيجة، فاقترحت على والدها أن يصحبها فى الحفلات. وكانت أول حفلة فى السنبلاوين. يذهب أفراد التخت سيراً على الأقدام، يتناوبون حملها بينما هى تحمل قطتها وتغنى مجاناً: «أقول لذات الحسن ودعتنى.. بنار الوجه طول الدهر آه». ثم تغنى فى «فرح» خفير نظامى فى عزبة مجاورة، وتتقاضى أول أجر فى حياتها: ستة قروش ونصف القرش، زادها الحاج يوسف، تاجر الغلال، إلى خمسة وعشرين قرشاً، وزادها حسن أفندى حلمى، صاحب كشك السجائر فى محطة «أبوالشقوق»، إلى مائة وخمسين قرشاً. ثم ركبت «الست» القطار لأول مرة، والتقطت لها أول صورة فى حياتها، وذاع صيتها، وجرت الفلوس بين يدى الشيخ إبراهيم البلتاجى. وفجأة.. بدأ الرجل يصطدم بالتقاليد: كيف يصطحب بنتاً فى بطانته التى تتنقل من كفر إلى عزبة إلى بندر إلى مديرية.. وهو رجل ريفى؟. هكذا قدر لأم كلثوم أن تتنكر فى زى ولد، وأن تغطى شعرها بعقال وكوفية مثل البدويات. وبينما يردد الأطفال فى طماى الزهايرة: «البحر بيضحك ليه.. وانا نازلة اتدلع أملى القلل».. كانت أم كلثوم تغنى: «جل من طرز الياسمين فوق خديك بالجلنار.. وارتضى ذا الجمان الثمين معدناً من لماك العقار». وكانت إذا وصلت إلى كلمة «الجمان» سكتت واستوضحت أباها، فيزداد يقيناً بأن شأناً عظيماً ينتظر ابنته.
[2]
طوال سنوات الحرب العالمية الأولى كانت أم كلثوم تمسح قرى الدلتا وحواضرها. لكن حاضرة البلاد، أى عاصمتها، لم تكن قد اهتدت بعد إلى هذا الصوت الرخيم. هنا تدخل القدر فزين لرجل يدعى «عز الدين بك يكن»، وكان أحد كبار تجار القطن وله قرية إلى جوار طماى الزهايرة، أن يحيى ليلة الإسراء والمعراج فى سراياه فى حلوان، وأن يستدعى جارته الصغيرة. وبدلاً من أن تغنى وضعوها هى وشقيقها «الشيخ خالد» فى بدروم السراى، ريثما ينتهى الشيخ إسماعيل سكر من وصلته. وإذ تبدأ أم كلثوم بالغناء ينطلق صوتها فى ردهات الدار فيصيب الشيخ إسماعيل فى مقتل: «أعد والنبى أعد». غير أن أم كلثوم لا تألو على شىء فى حاضرة البلاد سوى «كرملة» كانت قد اشترتها من بوفيه إلى جوار محطة باب اللوق.
فى العام 1920 تغنى فى فرح أحد التجار بدعوة من الشيخ زكريا أحمد، ويغنى معها الشيخان على محمود وأحمد ندا، ويرتفع أجرها من ثمانية إلى عشرة جنيهات (أى ما يعادل خمسين دولاراً بأسعار هذه الفترة). وبارتفاع دخل الأسرة بدأ الشيخ إبراهيم يتصرف على النحو الذى كان يرى أنه يليق بالمكانة التى صارت لأسرته، فأخذ أبناءه لتصويرهم فى استوديو، وأصبح يشترط فى عقوده أن تُقَدَّم لأم كلثوم زجاجة مياه غازية على نفقة المضيف، وأن ينقلهم من وإلى محطة القطار على ظهور الحمير، ثم اشترى حميراً خاصة لأسرته التى أصبحت تسافر فى الدرجة الأولى للقطار بدلاً من الدرجة الثالثة. وفى أواخر العقد الثانى من القرن العشرين رتب اثنان من وكلاء الفنانين هما محمد أبوزيد وصديق أحمد، ومعهما زكريا أحمد، لغناء أم كلثوم عدة مرات فى أحياء الطبقة العاملة فى القاهرة. وبين عامى 1920 إلى 1922 قدمت عدة حفلات ناجحة على مسارح وسط المدينة، كما غنت فى حفلات خيرية وفى بيوت أثرياء وفى حفلات زفاف، لكن مجدها الحقيقى لم يبدأ إلا بعد أن استقرت فى القاهرة بصورةٍ نهائية.
{long_qoute_1}
[3]
حدث ذلك عام 1923. لكن أم كلثوم حتى ذلك الوقت كانت ما تزال ترتدى.. «عباءة رجالية سوداء وتلف رأسها بكوفية مثبتة بعقال على عادة عربان الصحراء وتظهر على المسرح بحسنها الأخاذ وسط أربعة مشايخ ولا يصاحبها فى غنائها آلات وتغنى وهى واقفة معتمدةً على موسيقى صوتها الفريد».. هكذا وصفها محمد القصبجى عندما شاهدها للمرة الأولى. وبسبب مظهرها الريفى وتماثل أسلوبها فى الأداء مع أسلوب الإنشاد الدينى تعرضت أم كلثوم لكثير من الانتقادات فى صحف العاصمة.
تساءلت مجلة «روزاليوسف»: «أين تجديداتها؟.. إنها منشدة دينية، وهذا الأسلوب فى الغناء موجود فى مصر منذ عشرات السنين». ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعرضت أيضاً لسخريات صحفيى العاصمة. ونُقِلَ عنها أنها قالت لصديق من الدلتا جاء لزيارتها فى شقتها الجديدة فى القاهرة إن «إيجار الشقة 24 جنيهاً غير تمن اللحمة». وقيل إن والدة أم كلثوم لم تكن تعرف كيف تضىء مصباح الغرفة الكهربائى، وأنها سألت ابنتها فى حضور جمع من الضيوف: «كيف ينتظر منها العاملون الأغبياء فى شركة الكهرباء أن تطفئ النور وهى لا تستطيع أن تصل إلى المصباح المعلق فى السقف؟».
[4]
فى كتابها (صوت من مصر.. أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصرى فى القرن العشرين) كتبت «فرجينيا دانيلسون» تقول إن العام 1926 كان نقطة تحول فى مسيرة أم كلثوم الغنائية، إذ قررت الاستغناء عن أسرتها التى كانت تصاحبها على المسرح أثناء الغناء، وأن تستعين بتخت جدير بالاعتبار. وقد جاء قرارها هذا بعد هجوم الصحافة على المغنين المصاحبين لها، والذين وصفتهم «روزاليوسف»، على سبيل المثال، بأنهم «ليسوا على قدر من الوسامة أو الأناقة يجعلنا نعتبرهم جزءاً من الخلفية أو الديكور.. فما حاجتها إليهم وكل ما يفعله الواحد منهم هو التثاؤب من دقيقة إلى أخرى أو النعاس، فلا يصحو إلا على تصفيق الجمهور؟». كما اعتبرهم رئيس تحرير مجلة (المسرح).. «أصناماً».. «ووجودهم حولها فى هذا الوضع المزرى يدعو إلى الاشمئزاز.. لا سيما عندما ترتفع أصواتهم القبيحة التى تشبه صوت بعير يجأر من كرب ألم به!». {left_qoute_1}
وكان الجمهور يرى أن أم كلثوم على درجة مفرطة من الوقار والجدية بوجه عام: «يقولون إنها لا تشرب أو تدخن أو ترفه عن نفسها.. ويقال أيضاً إنها مغرورة ومتغطرسة». وبما أن والدها كان صاحب فكرة الاستعانة بالتخت فقد آثر أن يعتزل. لكنه لم يتركها، فتعاقدت معه على أن تحتفظ بنصف دخلها لنفسها وأن يتقاسم هو وشقيقاها خالد وصابر النصف الآخر. وكان على الشيخ إبراهيم أن يدفع الإيجار وتكاليف معيشة الأسرة، لكنها اشتركت معه فى شراء 126 فداناً من مدخراتها تولى الإشراف عليها شقيقها خالد.
[5]
شهد العام 1926 أولى نقاط التحول المهمة فى مسيرة أم كلثوم الغنائية، حيث استجابت لهجوم الصحف والمجلات على فرقتها القديمة التى وُصِفَ مشايخها بأنهم «يجلسون كالأصنام»، وبأن وجودهم معها على المسرح وهى تغنى كان يدعو إلى الاشمئزاز والتقزز، واستبدلتها بتخت، واضطرت بسبب ذلك إلى التعاقد مع والدها وشقيقيها خالد وصابر الذين كانوا معنيين فى الأساس بالحصول على المال، بحيث يحصلون على نصف أجرها، فيما تحتفظ لنفسها بالنصف الآخر.
فى هذا العام بدأت أم كلثوم رحلتها مع الحفلات العامة. ومع أنها فكرت فى البداية فى اختيار مسرح الأزبكية لتغنى عليه، فإنها اختارت مسرح دار التمثيل العربى لأول حفل أحيته، وهو المسرح نفسه الذى كانت تغنى عليه منيرة المهدية. ويبدو أن اختيارها هذا لم يكن من قبيل الصدفة، إذ بدأت «منيرة» تشن ضدها حرباً ضارية، استخدمت فيها أحياناً أسلحة غير شريفة. وكان عبدالمجيد حلمى رئيس تحرير جريدة «المسرح» من أبرز الصحفيين الذين استخدمتهم «منيرة» فى الهجوم على غريمتها الشابة، فكتب على مدى عدة أسابيع مشككاً فى أخلاق أم كلثوم وفى وجود علاقة زواج بينها وبين شخص كان يتردد كثيراً على بيتها.
كان من نتيجة ذلك أن أعلنت أم كلثوم عدم استقبال ضيوف فى بيتها بعد ذلك، وأصبحت تتعامل مع الصحافة بحذر شديد. كذلك استخدمت «منيرة» سلاحاً آخر، إذ أتت بمطربة مغمورة من الأقاليم تدعى «سنية حسنين» وألبستها الزى البدوى وراحت تقلد أم كلثوم فى غنائها حتى صارت تعرف بـ«ثومة الجديدة». لكن ظهور مقلدات لأم كلثوم لم يكن بدعة ابتدعتها «منيرة». فنجاة على، مثلاً، التى اشتهرت عام 1930، كانت تتعمد التنقل بصحبة والدها، وتطيعه بشدة، كما كانت تفعل أم كلثوم. ورغم أن هناك من شهد لبعض هؤلاء المقلدات بحلاوة الصوت فإن الكثيرات منهن وُصِفْنَ بأنهن «يشبهن المعروضات فى فاترينات محلات الموسكى وعيادات الأسنان».
[6]
وخلال السنوات الخمس التى أعقبت لقاءها بالشيخ أبوالعلا محمد، أى من 1922 إلى 1927 تلقت أم كلثوم فن غناء القصائد، وانطلق صوتها بـ«الصب تفضحه عيونه»، و«كم بعثنا مع النسيم سلاماً»، و«يا آسى الحى»، وغيرها مما اعتبره الناقد والمؤرخ كمال النجمى «ثورة غنائية قائمة على بعث الطريقة العربية فى الغناء بدلاً من الاقتباس أو الاستمداد من طرائق الغناء الأوروبى».
لقد ثقفت حنجرتها فى مدرسة الشيخ أبوالعلا محمد، فصارت لهجتها فى الغناء لهجة مثقفين، فيما غيرها من المطربات يغنين الشعر الفصيح بلهجة سوقية مثلما يغنين الطقاطيق الرخيصة فى مقاهى الأزبكية. ووفقاً لما ذكره النجمى عن الطابع الأساسى فى غنائها للقصائد خلال هذه المرحلة فإن إطلاق صوتها على امتداد مقاماته السبعة عشر، والتشدد فى دقة الأداء تحقيقاً لما سماه «قوة الأسر» فى الغناء العربى المتقن، كان بمثابة «استطراد للفصاحة فى الشعر العربى، إذ لا تجتمع الفصاحة الشديدة فى الشعر مع ركاكة الغناء واسترخائه». وهكذا أمكن لأم كلثوم أن تحقق فى وقت مبكر انتصاراً ساحقاً على طرائق الغناء التى ستضع منافستيها -منيرة المهدية وفتحية أحمد- خارج الحلبة.
[7]
لقد حقق التخت الجديد فى نظر محبيها نجاحاً ساحقاً. وكتب أحد المعلقين يقول إن صوتها بلغ حد الكمال، خصوصاً بعد التغييرات التى أجرتها هذا الموسم. وواكب هذا النجاح تطور حاسم فى شخصيتها، حتى إن إحدى الصحف علقت: «أم كلثوم التى كانت تقدم الإنشاد الدينى فى حفلاتها وتشمر أكمامها وتأكل بيديها.. صارت اليوم تغنى الطقاطيق والأدوار العاطفية وتأكل بالشوكة والسكين وتسألك عن أحوالك بالفرنسية». وعندما كانت الصحف تنشر عنها أنها لا تدخن ولا تسرف فى أى شىء، وأنها المطربة الوحيدة التى درست علم النوتة والأوزان والأنغام، كانت تنشر عن منيرة المهدية أنها عندما تستيقظ تدخل خادمتان، واحدة فى يدها مبخرة لتبعد عنها عين الحسود وشر العدو اللدود، وفى يد الأخرى حجر حمام لتدليك قدميها.
كانت أم كلثوم تقدم سلسلة من الحفلات على مسرح واحد فى يومين ثابتين كل أسبوع هما السبت والخميس فى الغالب. وقد بدأت حفلاتها فى النصف الأول من الثلاثينيات بدون وكيل يقوم بدور الوسيط، إذ كانت تتفاوض على تأجير المسارح بنفسها وترتيب أمر إعلاناتها أيضاً، وهو ما كان يُنظر إليه كدليل آخر على براعتها. غير أن الغناء فى الأماكن العامة أوقعها فى العديد من المشاكل بسبب فظاظة جمهور الحفلات. وللتغلب على هذه المشاكل اضطرت أم كلثوم لفترة إلى استئجار ممثل كوميدى لإلقاء النكات بغرض تهدئة الجمهور إذا وجدت صعوبة فى السيطرة عليه. كما لجأت إلى إحضار أعداد من مريديها ليصيحوا بعبارات الإعجاب ويتولوا إسكات المتفرجين المشاكسين فى حفلاتها. وقد أطلقت الصحف على هؤلاء المريدين لقب «بلاط» المطرب، وأصبح «البلاط» تقليداً ثابتاً فى مسارح القاهرة وصالات منوعاتها، وكانت عقود المطربين تتضمن أحياناً بنوداً تنص على ضرورة توفير أماكن لإقامة هؤلاء المريدين مجاناً!. لكن الخطوة الأهم كانت اعتمادها على علاقات مع أصحاب نفوذ كانوا يلتقون بها فى بيتها فى وجود أخيها وأبيها. وبمرور الوقت اجتذب صالون أم كلثوم رسامين وموسيقيين وصحفيين وشعراء وشخصيات عامة مثل طلعت حرب وشوقى والعقاد ومكرم عبيد وفكرى أباظة، ومن كل هؤلاء حصلت أم كلثوم على خدمات وتعلمت كيف تتحدث بذكاء فى السياسة والأدب وكيف تتمثل سلوكيات المجتمع الراقى.
[8]
وباندلاع الحرب العالمية الثانية كان قد مر على ثورة 1919 عشرون عاماً، استطاع الاحتلال البريطانى خلالها أن يحول الحركة الوطنية إلى مسخ، حتى لم يعد فى مصر قوة سياسية واجتماعية يتنافس عليها كل من الحلفاء والألمان أثناء الحرب سوى صوت أم كلثوم. وعندما وضعت الحرب أوزارها ونهض المصريون يعرضون على سلطة الاحتلال مطالبهم الوطنية.. غنت لشوقى قصيدة «سلوا قلبى»، فما تكاد تصل إلى قوله: «وما نيل المطالب بالتمنى».. حتى يعلو الهتاف والتصفيق وتختلط الحماسة الوطنية بالأشواق الدينية، لتصبح أم كلثوم دون أن تقصد من دعاة الجلاء. وفى عام 1948 طلبت أم كلثوم من الفريق حيدر باشا وزير الحربية المصرى إبان الحرب العربية الإسرائيلية الأولى أن تسافر لتغنى للجنود على خطوط النار، فرفض طلبها إشفاقاً عليها من المخاطرة. لكنها لم تستسلم ونظمت حملة للمجهود الخيرى بلغت حصيلتها آنئذ 22 ألف جنيه أضافت إليها خمسمائة جنيه من مالها الخاص وأربعين جنيهاً من الإذاعة عن كل مرة يذاع فيها «نشيد الشباب» الذى غنته خصيصاً من أجل فلسطين.
[9]
عقب اندلاع ثورة 1952 مباشرة أمر مسئول فى الإذاعة يدعى العميد الرحمانى بوقف بث أشرطة أم كلثوم بحجة أنها غنت أيام الملك، فعلق عبدالناصر: «طب ما الشمس كانت بتطلع أيام الملك.. والنيل كان بيجرى أيام الملك.. والأهرام كانت موجودة أيام الملك»، وبعد ساعات كان صوت أم كلثوم يجلجل بأغنية «صوت الوطن» عام 1952. وفى 1956 غنت لصلاح جاهين وكمال الطويل «والله زمان يا سلاحى» التى أصبح لحنها نشيد مصر الوطنى. وفى أعقاب العدوان الثلاثى تبرعت بعشرة آلاف جنيه لتعمير مدينة بورسعيد. وفى 1964 وبإيعاز من عبدالناصر شخصياً، التقى العملاقان عبدالوهاب وأم كلثوم فى رائعة أحمد شفيق كامل «إنتَ عمرى». وعقب هزيمة 1967 مرضت أم كلثوم بلا مرض وفقدت شهيتها للطعام وعاشت على المقويات ولزمت بيتها على نيل الزمالك، لا تزور ولا تزار ولا ترد على تليفونات. ثم جمعت شتات نفسها وحولت حزنها إلى غضب، وغضبها إلى إرادة، وأنشأت «التجمع الوطنى للمرأة المصرية» وخصصت إيراد حفلاتها داخل وخارج مصر للمجهود الحربى فجمعت مليونى جنيه. وفى الوقت نفسه خرج صوتها من ضجيج مظاهرات التنحى فى 9 و10 يونيو مناشداً: «ابق فأنت الأمل الباقى». وبينما كانت تستعد للوقوف أمام جمهور مسرح البولشوى فى موسكو بلغها نبأ رحيل عبدالناصر فعادت إلى القاهرة. اعتكفت قليلاً ثم ذهبت إلى وريثه أنور السادات -وكان بينهما ود قديم- وهنأته: «مبروك يا أبوالأنوار».. فإذا بزوجة الرئيس، التى سمت نفسها «سيدة مصر الأولى» نكاية فى «سيدة الغناء العربى»، تنهرها قائلةً: «اسمه الريس إذا ما كنتيش تعرفى.. بذمتك كنتى تقدرى تقولى لعبدالناصر كده؟». وإذ تشعر أم كلثوم أنها أعطت كل ما لديها، تشرع فى إنشاء «دار أم كلثوم للخير» ويصبح المشروع قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فإذا بالسيدة جيهان السادات تنشئ -نكاية فيها- «جمعية الوفاء والأمل». وبعد عامين، أى فى 1975، ماتت أم كلثوم. غابت «كوكب» الغناء ودخل «الشرق» فى ظلمة حالكة.