أسيرة التفاصيل

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

أطربتنى أصالة وهى تشدو محدثة حبيبها فتقول له (أنا المهتمة بالتفاصيل) وأعجبنى اختيار مؤلف الأغنية لهاتين الكلمتين للتعبير عن الحب، فأردت أن أحدثكم أحبتى وأصدقائى عن هذه المعاملات الراقية بين الأحبة وبين البشر جميعاً، وعن كلمات الشعراء التى وجدت لها فى بحثى أصلاً فى علم النفس عندما يكتبون عن الاهتمام، فالاهتمام بأدق تفاصيل تسعد الآخر هو أرقى أنواع الحب وأشملها، كما أنه يعتبر أول اعتراف ضمنى بأنك تحمل له داخلك الكثير من المشاعر، وسأترك لكم وصفها بما يليق وبما يمكن أن تعبر عنه، ولتوضيح الصورة أكثر يكفى أن نعرف أن كلمة اهتمام تعنى (اتجاه نفسى إلى تركيز الانتباه حول موضوع معين له وقع خاص) أما الفعل «اهتم بـ» فيعنى انشغل واعتنى فهو مهتم، وإذا كانت أبسط المعانى تقول انشغل فماذا عن العلاقات الإنسانية والعاطفية والأسرية التى لم تعد تتضمن معنى هذا الفعل ولا تقترب منه، بعد أن ضاعت التفاصيل وضاع الاهتمام بها من قاموس التعاملات الاجتماعية.. ويكفى أن نعرف ونقرأ أن جميع الشعراء بلا استثناء تناولوا تفاصيل حياة الأعزاء عليهم بأشيائهم الصغيرة التى لا تنسى، والتى تظل باقية حتى بعد أن يرحل منهم من تنتهى رحلته أو صحبته أو قصته أو حتى حياته. ومن أجمل ما قرأت حديث نزار قبانى فى قصيدته (شئون صغيرة) عندما يصف تفاصيله فيقول (شئون صغيرة تمر بها أنت دون التفات تساوى لدى حياتى جميع حياتى حوادث قد لا تثير اهتمامك أعمر فيها قصور وأحيا عليها شهور وأغزل فيها حكايات كثيرة وألف سماء وألف جزيرة شئون. شئون تلك الصغيرة).

وقد أقيمت مؤخراً ورشة عمل فى إحدى الجامعات حول علم الاجتماع ودراسة الأفكار والمشاعر والسلوك، حيث أكد المشاركون فيها أن اهتمام علم النفس الاجتماعى ينصب على الأفراد وليس على المجتمعات، حيث يهدف إلى تفسير السلوك والمشاعر وأفكار الفرد فى تعامله مع الآخرين، فالفرد الإنسانى هو وحدة الدراسة فى جميع فروع علم النفس العام وهو أول هدف للمبدعين فى أعمالهم الفنية أو الأدبية أو الشعرية، فهو المحور والأساس الذى يرتكز عليه كل هؤلاء. واتفقت أوراق المشاركين جميعهم على أن المصادر الأصلية لعلم النفس الاجتماعى هى كتابات الفلاسفة الاجتماعيين سواء فى الحضارات الماضية أو المعاصرة، ومنهم على وجه الخصوص أفلاطون فى جمهوريته، فهم الرواد الأوائل فى علم الأنثروبولوجيا، حيث يعد ما كتبوه عن الأجناس وما بدأوا به عن العمليات العقلية للشعوب البدائية نقطة البداية فى هذا التراث الثقافى للإنسان، والهدف العلمى لعلم النفس الاجتماعى هو تفسير السلوك وليس وصفه، وكذلك تفسير تلك التصرفات والمواقف التفاعلية، حيث يوضح أن مزاج الفرد وأفكاره تتمثل فى اعتقاداته وأحكامه المتعلقة بكل ما يحيط به سواء من أشخاص أو آليات حياة، وبمعنى أوضح وأسهل بردود فعله التى قد تكون حركيّة ظاهرة للجميع أو تعبيرية أو وجدانية، ويفسر علم نفس الاجتماع كل ذلك بأنه كثيراً ما يتوحد الإنسان بأشيائه الصغيرة أو بممتلكاته المهملة أو المفقودة أو التى لا تثير انتباه أحد غيره، وهذه الشئون والتفاصيل الصغيرة فى الحقيقة تساوى جميع حياته، رغم أن المحيطين به وأقربهم له قد لا يعيرونها اهتماماً، بينما يغزل فيها قلبه ومشاعره حكايات وحكايات، فقد تسعدنا أشياء وطقوس لا قيمة لها وقد يكون هناك شىء ثمين لا يعنى لنا شيئاً مطلقاً، لأننا لم نضمه لتفاصيلنا الحميمة، ومن أرقى المشاعر التى لا يعرفها إلا أصحاب النفوس النبيلة المرهفة الارتباط بالمكان، فقد تحدث علماء النفس عما يسمى (بوجع المكان)، الذى يهاجم من يبتعد مرغماً عن بيئته الطبيعية التى نشأ وعاش فيها، وقد يتمثل فى الوطن الذى يمثل لنا جميعاً الجذور التى تربطنا بالحياة، وأخيراً أقول لكم أحبتى احتفظوا لأنفسكم ببعض التفاصيل، فهى دليل شخصيتكم، كما أنها المخزن الذى قد تعودون إليه فى لحظات الوحدة القاسية لتقاوموا بها قسوة الأقدار، احتفظ بخصوصية مشروبك فى كوبك المفضل أو المقعد الذى تشعر بالألفة معه فى أحد أركان المنزل أو بقارورة ماء خاصة بك إلى جوار فراشك أو أوراقك وأقلامك أو حقيبتك القديمة وكتابك المفضل، ولَك سيدتى أهمس اهتمى بتفصيلات رجلك ولا تحرميه منها أو تهمليها أو تتناسيها فهى أصدق دليل على أنه يعيش ويستوطن بها داخلك.