العقل ينقذ ساكني الجحيم
لماذا لا يكون الإنسان محض عقل؟ لقد فكرت مليًا في هذا، وتكشف لي أن العقل وحده يستطيع إنقاذنا من وطأة الحياة، وسُكنة الجحيم، وبالنظر في تكويننا البيولوجيّ، لم أجد منفعة لهذا الجسد دون عقل، بدونه يصير عبئًا ثقيلًا، يعيق تقدمنا ونمونا الحقيقيّ، الجسد لا يقيّمهُ سوى العقل أما الروح فتميل أكثر الأوقات لأن تكون معذّبَة، لذا ليس من القسوة والوحشية أن أقول أن القتل يليق بها! في الواقع هي من تجلبه لنفسها بكثرة إنفعالاتها غير المفهومة، العقل النشط لا يجلب كل تلك الخسائر، والخيبات! بل يقاوم كل لحظة من أجل الحياة..
العقل ينقذ الموتى أحيانًا، يصنع للجسد المريض الأجهزة ويضع لها الأنظمة، والخطط والترتيبات، يشكل الحروف جُملًا، ويجعل اللسان ينطقه كلامًا، هو يلاحظ ويطرح الأفكار، ثم يكابد في تحليلها، يبحث عن الأسباب ويحاول الوصول إلى النتائج، العقل يسعى دائمًا للكمال، وهذا تماماً ما نحتاجه لكي نستمر في العيش. أعجب من هؤلاء الذين يهتمون بإصلاح هيئتهم، ويتركون عقولهم مهملة، يملأها الصدأ، كيف لا يعرفون أنه إذا صلح العقل صلحت الهيئة، وصلح كل شيء معها، على العقل أن يغلب الإنسان، أن يسيطر سيطرة كاملة على كل أفعاله، كي لا يرتكب الحماقات، وحده الشيء الذي إن زوده الإنسان زاده، سلبًا وإيجابًا، له حضوره وهيبته، ليس كالمشاعر تؤذي كل حين، وتجلب الخذلان!
في العصور الوسطى لم يكن الناس يعملون عقولهم، كانت عقول مهجورة، أو مدفونة، دفنتها الكنائس والنظم الكهنوتية، حيث الإيمان بلا تعقل، والتسليم بالخرافات، التي تحمل اسم المعجزات تارة، واسم الإله تارة، كان الناس وقتذاك بؤساء، ضحايا يعذبون لأنهم سلبوا من عقولهم..
الناجون قالوا لنا أن العقل وحده أنقذهم من وطأة الظلم، جعلهم أقوياء، مسلحين، لقد صار العقل إلهًا كما زعم نيتشة، لكنه ليس كباقي الآلهة، الذين قُتل باسمهم آلاف البشر، لقد كان إلهًا ساميًا، لا يخسر من يسعى له، أو يمشي على هداه،
قلت إلهًا، والحق كنت آقصد أنه نهائي لكنه كان يتصرف كما لو كان لانهائي، كأنه خالدًا، -بالمناسبة، هل سيكون العقل حاضرًا وقت إدانة هذا الجسد؟، هل سيُدان هو الآخر؟، ولكن على ماذا يُدان العقل؟ لقد كان دومًا منقذًا من الآثام في رأيي، فلماذا لا يكون منقذ أجسادنا من الجحيم أيضًا؟
الناس دائمًا في حاجة إلى ثورة عقلية، هم يثورون فقط على طغيان الفقر والجوع والمرض، لكنهم يفتقدون لأهم أداة ثورية هي العقل، العقل يقتل الفقر والجوع والألم والمرض، والقبح أيضًا..كان ينبغي على صانعي الخمر أن يصنعوا مشروبًا يجعل العقل يقظًا، وحاضرًا مشتعلًا، لا غائبًا، كان عليهم إرضاء العقل لا الشعور واللذة، على الناس أن يثوروا من أجل هذا أيضًا، عليهم أن يتحرروا..
عيني تفيض ذعرًا، كانت ستكون جميلة لولا لحظات الوحدة والخوف والألم، التي مررت بها وحدي دون عقل نشط، ربما لو كنت لا أملك الشعور حينها لما خفت أو تألمت، كنت سأعلم عقلي القوة، ومواجهة ما يشكل له خطرًا.
تنازعت كثيرًا بيني وبين نفسي هل يصنع العقل شرًا؟ وجهة نظري قالت لا، أما في الواقع هو يصنع الشر أجل لكنني لا أراه شرًا بل جمالًا من نوع آخر، وكنت أرى الشر الوحيد في إقصاء هذا العقل وإهماله.
كان يليق به أن يكون فردوسيًا، لم أفهم يومًا معنى أن يكون العقل وحيدًا، فالوحدة شعور وكنت أخذت العهد من قبل أن لا مجال لأي شعور في حضور العقل، لكن مهلًا لقد اختلف الأمر هنا، لقد تبين لي في نهاية الأمر أن وحدة العقل ليست شعور وإنما إدراك، هو بداية الوعي، الوعي بأنه وحيد ولا يوجد من يشاركه حضوره، سألت عجبًا: كيف لمن خلت حياته من عقل يبادل عقله أفكارًا سليمة أن لا يقتله صدى عقله؟ وأكملت: ربما بهذا الشكل يدفع العقل ثمن عطائه المفرط إما أن ينهار فتنهار معه سائر الأعضاء أو يموت ويموت معه كل شيء.
قبل أن أتجاوز العشرين حاولت أن أفهم ما يدور حولي، حاولت أن أصلح ما أفسده الماضي، وكان العقل هو هدايتي، ربما ما دونته يفتقد كثير من المنطق، وربما كان بعضًا منه خياليًا، والبعض الأخر عن أفكار غير معلن عنها، لكن الشيء الذي كنت واثقة منه حق الثقة أنني عنيت وقصدت كل كلمة دونتها، هذا ما ينبغي أن يكون في وقت صار كل ماهو كائن فاسدًا، العقل قوة والجميع يمتلك هذه القوة وليست قاصرة على أحد، هناك من يستخدمها وهناك من لا يعرف كيف يستخدمها، وكذلك هناك من لا يريد، ومن فضَل مشاعره على عقله ظنًا أن العقل يحاكي الماديات فقط، لكلٍّ خياره، لكن على مثل هؤلاء أن لا يسلموا زمام حياتهم في أيدي غيرهم من الناس، أن لا تأخذهم الظنون بأن هناك من يُعمل عقله عوضًا عنهم، فربما وقعوا فريسة لإختيارت أحمق، سأظل أحمل تلك الرسالة ما حييت، فأبدًا لن يهان من سبق عقله فعله وزمانه وكل ما يحيط به.