آمال فهمى والـ«BBC»

عاصم بكرى

عاصم بكرى

كاتب صحفي

كان «هشام» ابنى بالغ الحزن عند عودته من المدرسة وهو يسلمنى ظرفاً داخله بيان يشرح كيف أن هذا العام هو العام الأخير لمدرسة الـ«BBC» الدولية التى قرر مجلس إدارتها بشكل نهائى إغلاق المدرسة بدءاً من العام المقبل.

كان لا بد أن أتصل على وجه السرعة بالرائدة الإذاعية القديرة (آمال فهمى) لأخبرها بالأمر، ولكن لماذا أخبرها؟

وراء ذلك قصة طويلة عمرها ٣٣ عاماً وتحديداً عام ١٩٨٥ عندما كان برنامجها الإذاعى الشهير (على الناصية) يعكس بحق نبض الجماهير ويتصدى ويتحدى كل المعوقات التى تقف حائطاً صلداً بينهم وبين آمالهم، كان مالك ومؤسس المدرسة الدولية الشهيرة السيد (رضا إدوار) يخطو خطواته الأولى للدخول إلى عالم التربية والتعليم وأراد إنشاء مدرسة على أعرق الطرز التعليمية والمعمارية، ولكى يعبر من عالم الأحلام إلى عالم الوقائع والحقائق بحث عن مساحة كبيرة من الأرض تكون بعيدة عن أى زحام سكانى، أراد أن ينفذ تجربته ويحقق حلمه بعيداً عن أية متغيرات تشكل معوقات تحول دون تحقيق ما يصبو إليه، وهنا اصطدم بالروتين والبيروقراطية الممقوتة وغيرة الفاشلين من إرهاصات النجاح، ومرت عليه أيام شعر معها بيأس شديد وكاد يستسلم لهذه التحديات، إلا أنه التقى على غير موعد مع آمال فهمى التى آمنت بحلمه واقتنعت بطموحه التعليمى الواعد، وفى ذات الوقت كفرت بكل دعوات البيروقراطية السخيفة الهدامة، تحمست إذن لقضية اقتنعت بها وقررت أن تقوم بالدور الحقيقى للإعلام، فقاومت معه وكافحت، بل تحدت من أجل نجاح هذه التجربة مسئولين كباراً حتى ظفرت فى النهاية بتحقيق الهدف، وتم الحصول على الأرض وبناء المدرسة ونجحت التجربة التعليمية اللافتة وتخرج فى هذه المدرسة لفيف من الناجحين فى مختلف المجالات، ولم تكن أبداً فرصة للثراء الشخصى بل ظلت المدرسة وفية لرسالتها فى التوازن الدقيق بين النجاح فى جوهر العمل، وبين العائد المادى المقنع الذى يكفل استكمال التجربة وإتمامها، ورغم التميز الكبير لهذه المدرسة فإن مصروفاتها كانت متواضعة جداً بين قريناتها من المدارس المقاربة فى تقديم هذه النوعية المتميزة من الخدمة التعليمية، بل ومع ارتفاع أسعار المدارس أبى مُلّاكها الاستسلام لهذا الواقع ورفضوا رفضاً قاطعاً زيادة مصروفاتهم.

وبعد الخامس والعشرين من يناير نشأت بالقرب منها مجتمعات سكنية شبه عشوائية وأراد بعض القادرين مادياً من سكان هذه المجتمعات الدخول إلى قسم الناشيونال فى المدرسة لما وجدوا مصاريفه مستطاعة بالنسبة لهم، لكن المدرسة أرادت الحفاظ على مجتمعها الصغير ورأت أن دخول أبناء هؤلاء سوف يخل بالمستوى الأخلاقى والتربوى للمدرسة، وهنا تعرضت لضغوط على اعتبار أن أقسام الناشيونال تخضع لوزارة التعليم، لذا قررت المدرسة إغلاق قسم الناشيونال بشكل نهائى واضطرت للاستغناء عن ٢٣٠٠ تلميذ وتلميذة، مما عرض ميزانيتها لخلل كبير أصبحت بموجبه تتعرض للخسارة فى السنين الأربع الأخيرة، ولم يدفع ذلك القائمين عليها لزيادة المصروفات فى قسم الإنترناشيونال كما سبق وأسلفنا، وانتهى بها القرار فى ظل هذا المناخ المعادى وظل ذلك التحرش الإدارى إلى أن تعلن انقضاء الحلم وانتهاء التجربة الناجحة والإغلاق.

أبلغت الأستاذة آمال فهمى بهذا القرار الأخير فصمتت عبر الهاتف، وخرج صوتها بعد ذلك متقطعاً على غير عادته، حماسه المعتاد فقد شيئاً من المد الذى يأتيه من الأمل، ثم قالت بصوت خفيض «ياه يا خسارة أنا شاركت فى إنجاز هذه المدرسة الناجحة ولم أكن أحب أبداً أن أكون حاضرة فى هدم ذلك الإنجاز»، ثم استطردت بكثير من الأسى قائلة: «إننى أعيش فى هذه الأيام كل النهايات الحزينة».

إننا نتحدث فى أيامنا تلك عن بناء تلو بناء فعلينا أن ننتبه لمن يتحدوننا ويتآمرون علينا بالهدم تلو الهدم.

مهما حاولوا كتابة النهايات الحزينة لقصص بلادنا فعلينا أن نبدلها دوماً بالنجاحات فى آخر الطريق ونكتب هذا التتر فى آخر القصة.. (البداية)