أحد رموز المقاومة في الإسماعيلية يروي لـ"الوطن" ملحمة تضحيات الشرطة

كتب: عبيرالعربي

أحد رموز المقاومة في الإسماعيلية يروي لـ"الوطن" ملحمة تضحيات الشرطة

أحد رموز المقاومة في الإسماعيلية يروي لـ"الوطن" ملحمة تضحيات الشرطة

لم يكن تاريخ ميلاده في 25 يناير 1941، مجرد رقم يحمل الصدفة في عمر ميلاده على أرض مدينة الإسماعيلية، بل جاء مغروسا بأسمى معاني الوطنية والفداء، جاء قلبه وعقله يحمل التفاصيل الدامية التى مر بها الوطن ومنطقة القناة، ومن نعومة أظافره قضى مراحل طفولته وصباه مترقبا لحركة الفدائيين منذ عدوان 56، وبمذبحة 25 يناير 52، مرورا بنكسة يوليه، وبعدها معركة الحرب والنصر والسلام في أكتوبر 73، معاصرا لثورة 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013.

إنه جلال عبده هاشم صاحب الـ77 عاما وأحد أهم رموز الإسماعيلية الذي خلد أحداث العدوان ورصد حركة الفدائيين، إلى أن قاد حركة المقاومة وهو في الـ30 من عمره ليظل داخل جدران المحافظة التى هدمت كثير من مبانيها ومنازلها، ومنشآتها، وراح ضحيتها المئات من أبنائها شهداء على يد طائرات وصواريخ وبنادق الاحتلال، والعدو الغاشم.

يجلس جلال عبده هاشم حاملا ذكريات الوطن الجريح بكل فخر وقوة مستدعيا لحظات الصمود والرفض الدائم للاستسلام للعدو ومواجهاته، داخل معرض الموبيليا الخاص به داخل شارع السلطان حسين أحد أهم الشوارع التاريخية في المحافظة ومنطقة القناة، ورغم أناقة الشركة التي ما زال يديرها إلا أن جميع انتيكات المكتب هي عبارة عن بقايا الشظايا، والقنابل، والدبابات، التي كانت تضرب جدران المحافظة وأبنائها وفدائييها، ورجالها من جيش وشرطة دون هوادة وتحمل الجدران العديد من براويز صور لجثث الأبناء من أطفال ونساء ورجال وشيوخ اغتالت أرواحهم البريئة معدات وآلات كل خائن معتدٍ، وكتاب قام بتأليفه يحمل اسم "الإسماعيلية أحداث وذكريات" سرد خلاله جميع التفاصيل التي مرت بها المنطقة يحاول أن يهاديه لكل من يزور شركته، مؤكدا له أنه واجب الضيافة الذي لا يجب التخلى عنه ووجوب قراءته حتى لا نفقد معاناة هذا الوطن وتضحيات رجاله وأبنائه ونسائه حتى نصل إلى هذه المرحلة، وحتى لا يزيف التاريخ.

يقول متحدثا عن ذكريات 25 يناير 1952، من أعظم الأيام التاريخية الوطنية لشعب مصر هذا التاريخ، الذي حمل تضحيات رجال الشرطة البواسل، وفقدهم مجموعة كبيرة من شهدائهم من أجل الوطن.

في هذا التاريخ كانت الإسماعيلية ومدن القناة في حالة احتلال من قوات الإنجليز في محاولة للسيطرة الكاملة على المدينة وفرض الحصار عليها، وكان الفدائيون يمثلون صداعا مزمنا في رأس وتحركات قوات الاحتلال، واتهم الاحتلال وقتها قوات الشرطة بمساعدة الفدائيين، ورفضهم الدائم لمطالب الإنجليز بالقبض على رجال المقاومة الشعبية من الفدائيين وتسليمهم لهم.

وكان هنا القرار من قبل قوات الاحتلال بالرد على هذا الرفض الشرطي بالتعاون معهم في تسليم الفدائيين، بأن طالبوا بلوكات النظام من القوات الشرطية داخل قسم البستان مقر مديرية الأمن الحالي بشارع محمد علي الشاهد على كثير من جرائم الاحتلال، حتى قال قائد القوات البريطاني في الإسماعيلية وقتها "لازم نأدبهم" وكي يحدث ذلك لازم الشرطة تسلم سلاحها وتخرج بره قسم البستان، وبالفعل تم إملاء القرار على اليوسباشي مصطفى رفعت مدير أمن المحافظة وقتها، عندما قال له القائد الإنجليزي "البريجادير أكسهام" أمامكم ساعات معدودة وتسلموا السلاح وتغادروا المكان، وإلا سيكون الرد عنيفا، وكان ديكسهام على علم تمام وقناعة لا تقبل التشكيك بأن الشرطة لن تقبل ولن تستسلم رغم عدم تكافؤ الأسلحة والمعدات والمواجهات المحسومة بالطبع لصالح الإنجليز، ليبلغ اليوسباشي مصطفى رفعت وزير الداخلية وقتها فؤاد الدين باشا بما حدث، وكان القرار الشهادة ورفض الاستسلام والانصياع وراء القرارات وعدم تنفيذ التعليمات.

وقتها كل ما فعله قوات الشرطة من بلوكات النظام المرابطة على موقعها داخل القسم،  بعد أن أخطرهم قائدهم بالقرار البريطاني وأجمع الجميع على الموت شرفا ورحبوا بالمواجهات، وقاموا بتعبئة أكياس من الرمال ووضعوها كنوع من الحماية، في الوقت ذاته أحضرت قوات الاحتلال الدبابات، والمدافع وصوبتها تجاه مكان الضباط والبلوكات داخل القسم، ودار الضرب باستخدام بندقيات "لي انفلدا" 303 تأخذ 100 طلقة و60 وأقل شيء 30، ونحن كنا نواجههم بسلاح بدائي لا يحمل داخله إلا 10 ذخائر بالكثير.

دارت هنا معركة دامية وغير متكافئة على الإطلاق فنحن كنا نعاني ضعف التسليح، لكننا كنا نمتلك قوة المقاومة وحماس النصر والجلاء للاحتلال، لينتج عن المذبحة سقوط أكثر من 60 شهيدا و200 جريح ومصاب من الأفراد والضباط، ولينادي الاحتلال بعد أن نجح في محاصرة المكان من الخارج استسلام باقي الجنود مقابل إيقاف إطلاق النار، ليدخل القائد "ايكسهام" ويرى نتاج معركته الدامية بين دماء وجثث وإصابات ويشاهد موت الجنود وهم واضعين سلاحهم داخل صدورهم وأسفل جثثهم ليقول جملته الشهيرة "كنا عارفين أنكم أبطال" ثم أدى لهم التحية العسكرية.

خرج وقتها باقي الجنود والضباط والأفراد في مجموعات ولم يخرج واحد منهم في وضع الاستسلام أو رافعا يده.

وفي مساء ذلك اليوم خرج أهالي المحافظة عن بكرة أبيهم وجاء عدد من الفدائيين من مدن القناة إلى الإسماعيلية، في إصرار على حمل جثث الشهداء إلى مثواهم الأخير فمنهم من دفن داخل مقابر الإسماعيلية، ومنهم من حمل الفدائيين وذويهم جثثهم إلى محافظاتهم ليدفنوا بمسقط رأسهم.

المشهد الثالث في المعركة لم ينتهِ بعد الحصار والضرب وخروج الجثامين وفرض السيطرة الكاملة على المكان، ولكن ظلت قوات الاحتلال تطارد رجال البوليس من الضباط والجنود في محاولة للقبض عليهم والنيل منهم، وهنا أستحضر مشهدا لا يمكن أن أنساه فكان عمري وقتها 11 عاما، ووجدت جرس منزلنا يدق في ساعة متأخرة من الليل قمت مسرعا وفتحت الباب، وجدت 3 رجال يطلبون لقاء والدي، أسرعت متجها إليه وأيقظته من نومه، وعندما خرج إليهم علم أنهم من رجال البوليس المصري داخل قسم البستان فقام على الفور بإدخالهم، وأيقظ والدتي التي أحضرت لهم الطعام، ثم طالبوا أبويا ببعض الملابس الملكي، لأنهم أرادوا تغيير الملابس الملكي بعد أن خرجت قوات الاحتلال تبحث عنهم للقبض عليهم.

بالفعل أحضر والدي ملابسه الخاصة، وقامت أمي بأخذ مقاسهم وصممت لهم الملابس على ماكينة الخياطة الخاصة بها ، ثم وضعوا ملابسهم الميري في ورق جرائد واكياس غامقة، واصطحبهم والدي إلي منزل لنا كان داخل عمارة بمنطقة بالعرايشية يستأجرها قوات الإحتلال ويقيمون بداخلها مقابل دفع قيمة الإيجار، على اعتبار أنه اكثر مكان آمن ولا يمكن الشك به، وأغلق والدى عليهم الباب بالقفل ،حتى لا يثير الشكوك بوجود أحد بالداخل، وطالبهم بعدم استخدام الكهرباء، أبلغهم أن المنزل دور أرضي وبه 3 شبابيك لو استشعروا الخوف يقومون بالهرب منه.

كان شقيقي الأكبر محمد، هو من يتولى عملية حمل الطعام إلى رجال البوليس الـ3 على مدار الـ3 ليالٍ الذين قضوهم داخل المنزل، وعندما هدأت الأمور نوعا ما، استطاع ضابط منهم أن يتجه إلى القطار عائدا إلى القاهرة لأهله، فيما نجح والدي في أخذ الضابطين الآخرين داخل سيارته وكنت بصحبته واتجه بهم إلى منطقة العباسة بعد مدينة ومركز التل الكبير واطمأن عليهم ثم عاد بي مرة أخرى، صافحهم والدي ولم يسألهم طيلة الطريق أي سؤال، ولم يستجب إلى مطلبي بمعرفة أسمائهم.

 


مواضيع متعلقة