عيد الميلاد المجيد بطعم جديد

عادل نعمان

عادل نعمان

كاتب صحفي

ألا تتفقون معى أن الاحتفال بعيد الميلاد المجيد هذا العام كان بثوب ولون وطعم جديد مختلف عن الأعوام السابقة؟ ولا أقصد بهذا شكل الكنيسة بالعاصمة الإدارية الجديدة وجمالها وزينتها وحلتها المبهجة، ولا أقصد حالة الاستنفار الأمنى حول جميع الكنائس فى مصر التى أظهرت شكل التحدى الغشيم المخيف، ولا أقصد هذا الغياب المفاجئ للسلفيين وخزيهم وانكسارهم، ولا أقصد حلاوة الإفطار وأنواعه وتنوعه للإخوة المسيحيين بعد طول صيام، ومشاركتهم المسلمين بما لذ وطاب من أنواع الطعام، لكنى أقصد شكل العيد على وجوه الغالبية العظمى من المسلمين، ولونه الدافئ، وشكله الرقيق، وتهانيه الناعمة العذبة المتدفقة، والإحساس العام الغالب بالرضا والقبول، وجوّ الرغبة الصادقة فى مشاركة الإخوة احتفالهم وفرحتهم حتى لو كان الموت واقفاً على مشارف الكنائس، هذه المشاركة المرغوبة والمقبولة والمحبوبة كانت غالبة عند الكثير من المسلمين، ففرحوا فرحتهم، وشاركوهم كنائسهم بلا خوف، بل كان حضوراً ممزوجاً بالتحدى واليقظة والاستنفار، ولا أقصد بالغالبية الكثيرة من المسلمين هؤلاء الرسميين من أصحاب الياقات البيضاء وكلماتهم المعسولة بطعم أحياناً وبدون طعم أحايين أخرى، ولا أقصد أيضاً هذه الوجوه الغاشمة المضلة والمضللة، بل أقصد هذه الجموع من المسلمين الدافئة مشاعرهم، الطيبة نفوسهم، التلقائية رغبتهم، من المستنيرين والبسطاء على السواء، ولم أجد بيتاً منهم لم ينقل القداس بصوته العالى فى تحد وفرحة، غير ما كنا نسمعه على استحياء فى سنواته الماضية، طعم ومذاق جديد لم آلفه على وجوه الغالبية العظمى من المسلمين المصريين أو فى عيونهم منذ هذا الغزو الوهابى المتحجر المتصحر والمسيطر على العقول منذ عقود.

لا أدرى كيف وصلنا وبسرعة إلى هذا الشعور الدافئ الجديد، وكيف قطعنا المسافة فى عشر دقائق، وكنا قد أضعنا عشرات السنين نبحث عن هذه اللحظة الغائبة الضائعة، ولما جاءت أمسكناها وحاصرناها وأقسمنا ألا نعود منها أو نتركها، هى لحظة بالعمر كله، أليس الموت لحظة، والحياة لحظة، والحب والكره مقسّمين بين لحظتين؟ عشر دقائق بدأت من الاعتداء على كنيسة الأمير فى ضاحية حلوان، حتى اصطياد الإرهابى على رصيف الشارع وحيداً، كانت نهاية عمر وبداية عمر جديد. هى ولادة كانت مستعصية ومتعسرة، واقفة خائفة مترددة على الأبواب، لا يعود الجنين إلى رحم أمه، ولا يريد أن يهبط إلينا بسلام، كنا نراه موتاً وكان يراه حياة، كنا نراه مقطوع الأنفاس ويراها محبوسة مكتومة للحظة الطلق والانطلاق، هى لحظة جاءتنا تتهادى من السماء، آية حسبها الناس آية هزيمة وانكسار، إلا أنها كانت أعظم لحظات الانتصار، انتصار على الخوف، وانتصار للمظلوم، وانتصار لنفوس قد ضللها تاريخ طاغ معتد، يرى الظلم عدلاً والسرقة شرفاً، وبيع النساء كبيع الخرفان، وهى آية انتصار للبصيرة أن ترى الحق حقاً والظلم ظلماً، والأخوّة الحقيقية مقسمة بالعدل بين الدين والوطن. لحظة أبت الجموع فيها الانصراف إلا بعد الولادة، حتى لو أطال الناس النظر إلى عورات النساء، تتشابك الأيدى تمسك بالجنين ألا يعود، تجبره جبراً على الولادة، تقطع حبله السرى حتى ينزل ويهبط بسلام، فلا عيش له ولا راحة بعد اليوم فى رحم ضيق، خانق، لا متسع له، حتى إذا ما حاول العودة، كانت الطلقة الأخيرة للأم الموجوعة قد جاءتها بعد صراخ وعويل وسعى بين شوارع حلوان، فكانت نهاية الطلق والطرد فاستقبلته القابلات بالزغاريد.. هذا هو مولودها الجديد، فسلام على المولود يوم بُعث ويوم نزل ولحظة أن جاءنا حياً يتكلم. هى لحظة نزعنا فيه الخوف نزعاً، لحظة نفاد الصبر على الظالم، وضيقه على المظلوم، لحظة الطلقة الأخيرة فى يد المحارب فإما الموت وإما الولادة، وكانت طلقة الأم الأخيرة لحظة ضيق المكان على اتساعه، ونفاد الحمل على سعته، ونزع الغل على كرهه، لحظة الخلاص فلا فرق فيها بين الحياة والموت، هى لحظة انقضاض صلاح الموجى على القاتل ونزع هذا الجنين من بين أنيابه. هى لحظة لو كررناها وأعدناها على المصريين جميعاً ما تردد أحدهم فى حصاره والإمساك به، واستقبال المولود مهما كان نزيف الأم ودم المخاض.

هى لحظة بكل اللحظات، وبكل الأعمار، وبكل ساعات الخوف والنجاة، كم كنا ننتظرها على يد معلم أو مصلح أو رسول، إلا أنها أبت أن تظهر إلا على يد بسيطة بساطة المصريين فى الحارات، فجاءتنا على رغيف بلدى بحبة ملح تُشبع من جوع، وجاءتنا على كف فارغة منزوعة السلاح، لا تحمل سوى الغيظ والضجر والسخط والغضب، وقلق الانتظار، فنزعت ما فى قلوبنا من خوف، ورمت نفسها فى حضن الخطر حتى جاءنا الخلاص، وكان خلاص الجنين ممزوجاً بشربات وردى اللون حلو الطعم والمذاق.

هذه لحظة تحتاج إلى مدّها إلى ساعات، وغنائها بالأشعار، وتمثال كبير فى أكبر الميادين، والرقص على نغماتها ليل نهار، وتعليمها للصغار والكبار، وتكبيرها على حوائط البيوت ليراها المقبل والمسافر، فهى لحظة صنعت فرحة وطعماً جديداً لعيد الميلاد المجيد لكل المصريين، هنيئاً لنا بلحظات الصدفة التى تصنع لنا الانتصار والمحبة، وتصنع لأعداء الحياة الهزيمة والانكسار.