فعلها «ترامب»!

احتُلت القدس قديماً وأعلنت إسرائيل أنها عاصمتها، وأقامت آلاف المستوطنات حولها. حاولت تهجير سكانها وتهويدها، وفى الختام أعلن «ترامب»، أكثر الرؤساء الأمريكيين رعونة، نقل سفارة بلاده إليها. فعلها «ترامب» بعد قرابة مائة عام من وعد «بلفور»، ليعلن وفاة العرب مرة أخرى، العرب يموتون كثيراً. هكذا فعلها من أعطيناه المليارات من ثروات شعوبنا الفقيرة دون مقابل. هكذا فعلها من نصّبه البعض أميراً على أمتنا البائسة، هكذا فعلها من تسوّلنا بسمة من شفاهه أو كلمة رضاً تخرج من لسانه فى الوقت الذى حارب فيه بعضنا بعضاً، وقتل وسجن وعذب وفجر واغتال بعضنا بعضاً. فعلها من تغزّلنا فى وقاحته وهو المكروه بين شعبه والمطعون فى شرعيته بين أمته، ظنه بعضنا نصيراً للعرب من فرط سذاجتهم، فطعنهم بخنجره المسموم، ليس من الخلف ولكن من الأمام وهم راضون سعداء، والآن يُمنُّون أنفسهم بأن خنجره ذلك ما هو إلا مشرط جراح سيداوى جروح أمتهم، هكذا يُخدعون المرة تلو الأخرى. فعلها «ترامب» لأنه يعلم أن القدس هانت علينا جميعاً، فبعضنا يشتم فاتحها الأول عبقرى الإسلام رائد العدل السياسى والاجتماعى عمر بن الخطاب، وآخرون أهالوا التراب على محررها من أيدى الصليبيين دون إراقة دماء صلاح الدين الأيوبى الذى استسلم له الصليبيون وسلموا له القدس وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا كفاحه وبذله 27 عاماً عاشها فى خيمة تهزها الرياح يمنة ويسرة لم يعرف فيها حياة القصور ومات ولم يورث لا قصراً ولا بيتاً. فعلها «ترامب» لأنه يعرف التشوش فى العقل العربى، سيشترون مزيداً من السلاح لا لتحرير القدس، ولكن لكى يقتل بعضهم بعضاً، أو يحسم بعضهم صراعات الكراسى والمناصب مع آخرين من بنى وطنه وجلدته وملته.

فعلها «ترامب» لأنه رأى كل الميليشيات التكفيرية (داعش والقاعدة والميليشيات الشيعية وحزب الله والحشد الشعبى) كلها بجوار الجولان والقدس، ولا تتجه قواتها إليها ولا تطلق الصواريخ عليها، بأسها بينها شديد، وهى فى الجولان وعند الجيش الإسرائيلى وديعة رقيقة. تعتذر «داعش» لقذيفة مدفعية أُطلقت من قواتها على الجولان بطريق الخطأ، أول مرة نعرف أن «داعش» عندها مشاعر لتعتذر بها، وأنها رقيقة ودودة، أين هذه الرقة وهم يذبحون الساجدين الراكعين فى المساجد أو يفجرون الكنائس. فعلها «ترامب» لأنه يعلم أننا سنجرى خلفه رغم كل ما فعله، وسنقف عاجزين أمامه رغم أننا نملك الكثير والكثير لوقفه، فعلها لأنه يعلم أن دولة فقط فى أمريكا الجنوبية هى التى طلبت عقد مجلس الأمن وليست دولة عربية، وأن دولاً أوروبية قالت إن القرار مناقض لقرارات الأمم المتحدة وكان ردها أقوى من الرد العربى الهزيل دائماً.

بشّرنا «ترامب» بصفقة القرن، فإذا هى لطمة القرن وخيبة الدهر، وإذا كانت هذه مقدمة الصفقة وبداية القصيدة كفر فما بالنا بالمتن؟! فعلها لأنه أيقن بهواننا وضعفنا، وأننا أمة «الحنجورى»، ويعلم أن أبناء العرب سيقاتلون فى المكان الخطأ والزمان الخطأ وبالطريقة الخطأ رداً على قراره، فقد يتظاهرون بطريقة صدامية مع شرطة بلادهم فتسيل دماء العرب أيضاً، أو يتهم بعضهم بعضاً بالخيانة فيغتال بعضهم بعضاً، أو يخرج تنظيم مثل «أنصار بيت المقدس» فلا يتجه إلى القدس شرقاً ولكن يتجه إلى الفرافرة أو سيناء، أو يتجه بعضهم لقتل بعض المواطنين الأمريكيين الذين لا شأن لهم بالسياسة الأمريكية، فالمواطن ليس مسئولاً عن فعل أبيه ولا أمه ولا شقيقه، فكيف يكون مسئولاً عن سياسة دولته سواء فى الدول الديمقراطية أو الديكتاتورية «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»، وقد يحدث الحول العقلى عند البعض فيضر بلاده بدلاً من أن يضر أمريكا فيضرب القنصليات أو السفارات الأمريكية فى بلاده، ناسياً أن الرسل والدبلوماسيين لهم الأمان حتى فى حالة الحرب. فعلها «ترامب» لأنه يعلم أن الأمر سيمر مثل كل كوارثنا.. فإذاعاتنا لا تزال تغنى/ ونحن نهيم بصوت الوتر/ وتلفازنا مرتع الراقصات/ فكفل تثنى ونهد نفر/ وفى كل عاصمة مؤتمر/ يباهى بعولمة الذل/ يموت الصغار وما من أحد/ تهد الديار وما من أحد/ يداس الذمار وما من أحد/ فنتنياهو انتصر/ وجيش ابن أيوب مرتهن/ فى بنوك رعاة البقر/ وبيبرس يقضى إجازته/ فى زنود نساء التتر/ ووعاظنا يرقبون الخلاص/ مع المقبل المرتجى المنتظر.

رحمك الله يا غازى القصيبى، يا من أبدعت هذه الكلمات الرائعة التى تصور حال العرب حتى بعد ضياع القدس، وسلام عليك يا قدساه، ولك الله يا قدس الحبيبة، فعيوننا إليك ترحل كل يوم/ تدور فى أروقة المعابد/ تعانق الكنائس القديمة/ وتمسح الحزن عن المساجد.