مرحلة ما بعد «أوبر» وأخواتها

رامى جلال

رامى جلال

كاتب صحفي

كان عام 1900 بمصر مميزاً بحق؛ وُلد فيه كثيرون مثل الفنانين يوسف وهبى وحسين رياض، والمعمارى حسن فتحى، لكن مولوداً آخر ظهر فى شوارع القاهرة بهذا العام، وهو «التاكسى الأجرة».. كان المولود من ماركة «دى ديون بوتون» الفرنسية، ذات السلندر الواحد.. وخلال أول ثمانى سنوات، كان عدد سيارات الأجرة ثمانى سيارات فقط، وزاد بعد دستة سنوات إلى الرقم 30، وكان معظمها من ماركة «بوبى تاكسى»، بنهاية الربع الأول من القرن العشرين، احتج أصحاب عربات الحنطور والكارو لظهور سيارات الأجرة التى أوقفت حالهم، وبعد أن هدأت العاصفة بخطاب من «سعد زغلول»، قامت الطبيعة بدورها، فكان البقاء للأصلح، واستمرت سيارات الأجرة إلى أن وصلت لشكلها التقليدى الشهير بالعاصمة (الأبيض والأسود).

مع تردى الخدمة: (توصيل أكثر من زبون فى الوقت ذاته.. رفض الذهاب لأماكن معينة.. تحرشات من السائقين.. عدم الأخذ بعداد الأجرة.. بلطجة بأشكال مختلفة)، كان على الطبيعة أن تتدخل مرة أخرى، فظهر «التاكسى الأبيض» الذى تلافى عيوب سلفه المرحوم لفترة استمرت قرابة السنوات العشر، بعدها تكرر سيناريو المشكلات نفسه، خصوصاً مع انتقال سائقى التاكسى القديم إلى الجديد، وعدم تقديم أى دورات تدريبية لهم، ولثالث مرة يتم استدعاء «تشارلز داروين» من قبره، لتقوم نظرية التطور بدورها، وتُحدث طفرة يظهر على أثرها مخلوق جديد، عبارة عن سيارة تأتى لك باتصال تليفونى وبرنامج على الهاتف النقال.. ولأن دوام الحال من المحال، فإننا سنحتاج قريباً إلى الأخ العزيز «داروين» للتدخل بعد بداية انهيار المشروع الجديد، المخلوق الجديد انقسم إلى ثلاثة مقدمى خدمة رئيسيين وهم: «لندن كاب»، و«كريم»، و«أوبر».. الأول مخصص لطبقة معينة بإمكانيات مادية عالية (لكن خدماته بمستوى رفيع للغاية من الأمان والجودة)، ولذلك قد يستخدمها أمثالى، حرفياً، فى المناسبات السعيدة.. أما «كريم» و«أوبر»، فالأول لم أستخدمه أبداً حتى الآن، والثانى هو النموذج الذى سيؤكد لك أن «داروين» سيعود قريباً.

منذ يومين اعترفت «أوبر» بأن بيانات خمسين مليون عميل وسبعة ملايين سائق حول العالم قد تمت سرقتها فى أكتوبر 2016 (الاسم، ورقم الهاتف، وعنوان البريد الإلكترونى، وصور رخص السائقين).. انكشف الأمر بعد عام من الإخفاء المتعمد، فهل نفترض فى مصر أن بياناتنا فى أمان؟

الإخفاء أسلوب دائم لديهم، فالشركة تحرص على ألا يكون لها رقم «خدمة عملاء»، يبدو أنها لا تحب «وجع الدماغ»، وتكتفى بتلقى إيميلات قد لا يقرأها أحد (مر معارف لى، بالقاهرة والإسكندرية، خلال الأيام الثلاثة الماضية بمحاولتى اختطاف من سائقين بشركة «أوبر»، ولم يردعهما إلا إرسال بياناتهم إلى طرف ثالث فى أثناء الرحلة، وادعى السائقان وقتها أنهما مجرد تائهين.. الشركة لم تُحرك ساكناً، ولم يبق للضحايا غير اللجوء للقانونى الجنائى).. والسبب هو أن الشركة لا تحقق معايير عالية للسلامة والأمان، لأن الأمر فى النهاية راجع لنوعية سائقى السيارات، الذين لا تهتم الشركة بنوعيتهم بل بعددهم، ولهذا سحبت هيئة النقل والمواصلات فى العاصمة البريطانية لندن رخصة «أوبر» منذ شهر ونصف، لعدم إجراء فحوصات وتحريات كافية عن السجل الجنائى للسائقين.. كما تم سابقاً حظر «أوبر» فى فرنسا وإسبانيا وبلجيكا.

فى مقابل الخدمة الجيدة، كنا نتحمل ما تسببه سيارات تلك الشركات من حالة زحام كارثى فى شوارع القاهرة؛ ففى ظل أزمة اقتصادية كبيرة نمر بها جميعاً، وفى ضوء غياب معايير اختيار السائقين، تحول الجميع إلى «أوبريين»، وإن كان سائقو «أوبر» هم قطاع عرضى من المجتمع، نجد فيهم الجيد والسيئ، إذن فلا ميزة تنافسية، ويكون التاكسى الأبيض أوفر وأسرع.

يجب ألا تعتمد هذه الشركات فى استمرارها على ضعف المنافس، الأصل هو انتقاء من يعملون وإلا أصيبت جينات الفكرة نفسها بفيروس قاتل، يستدعى ظهور «داروين» مرة أخرى وليست أخيرة.