هل نجحت سياسة مقاطعة قطر؟

فى نهاية الأسبوع الماضى، كان وزير الخارجية القطرى الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثانى يتحدث فى مؤتمر السياسة الدولية، المنعقد بالمغرب، حين جدد التأكيد على استعداد بلاده للحوار من أجل الوصول إلى حل للأزمة القطرية مع الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب، وهى الأزمة التى أتمت أمس شهرها الخامس.

يقول الوزير القطرى إنه يتمنى أن «تسود الحكمة وتتراجع دول الحصار عن موقفها الرافض للتواصل، وأن تنخرط فى الحوار، لتجنب أزمة ليس لها داع، وليس لها أساس».

حينما تتعقد أزمة ما بين طرفين أو أكثر، ويكون هناك طرف يلح على الحوار وبدء التفاوض، فيمكننا أن نعرف أن هذا الطرف بالذات يخسر أكثر من استمرار الأزمة، وهو الأمر الذى بدا واضحاً فى سياسات الدولة القطرية وخطابها.

لم تكن تلك هى المرة الأولى التى دعت فيها الدوحة الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، والتى تسميها «دول الحصار»، إلى الحوار، بل حدث ذلك عشرات المرات على ألسنة مسئولين قطريين مختلفين، كان من بينهم الأمير تميم.

وزير الخارجية نفسه كان قد دعا، فى 11 سبتمبر الماضى، فى كلمة أمام مجلس حقوق الإنسان، بالأمم المتحدة، إلى الحوار مع الدول المقاطعة لبلاده، مجدداً استعداد الدوحة للحوار، فى ظل «احترام مبادئ الحفاظ على السيادة، وبعيداً عن الإملاءات».

لكن فى تلك الجلسة التى تحدّث فيها الوزير كان مضطراً إلى التأكيد على ما سماه «موقف قطر الثابت ورفضها الإرهاب، وإدانته بجميع صوره وأشكاله»، وهو أمر أصبح مكرراً ضمن الخطاب السياسى للدوحة، خصوصاً فى ظل تصاعد الاتهامات ضدها، والربط بينها وبين عدد من التنظيمات الإرهابية.

إن أى محاولة جادة لتقييم سياسات الدول الأربع الداعية إلى مكافحة الإرهاب، عبر الضغط على قطر، لا يمكن أن تتجاهل بروز عدد من العوامل الجوهرية فى ملف الأزمة، أبرزها أن الإلحاح القطرى على إقامة الحوار وبدء إجراءات التفاوض تكثف وزادت وتيرته بشكل واضح، وهو الأمر الذى يعنى أن طاقة الدوحة على التحمل بدأت تنفد، تحت وطأة الضغوط الكثيفة.

أما العامل الثانى فى تقييم تلك السياسات فيكمن فى حرص الدوحة اللافت على إدانة الإرهاب والتنصل منه فى خطابها السياسى الرسمى والإعلامى.

يعنى ذلك أن الدوحة تكرر على لسان مسئوليها ودبلوماسييها عبارات الشجب والإدانة الكاملة للإرهاب والجماعات التى تمارسه، كما تنتقد التطرف وتحض على مواجهته من جانب، وتقوم من جانب آخر بتخفيف خطابها الإعلامى المساند للجماعات الإرهابية، ومحاولة إظهار التنصل والحياد حيالها، بعدما كانت تلك الجماعات تحظى بالدعم والاهتمام فى الوسائط الإعلامية القطرية، وأبرزها «الجزيرة».

تريد قطر أن تعطى انطباعاً للمجتمع الدولى بأنها توقفت عن مساندة الإرهاب، لأنها تدرك أنه من الصعب جداً إقناع هذا المجتمع بأنها لم تدعم الإرهاب فى السابق.

ثمة تقارير موثوقة عن أزمات مالية تطال بعض الجماعات الإرهابية التى كانت تعتمد فى تمويلها أساساً على الدعم القطرى، وهو أمر يمكن أن يكون ملموساً فى ليبيا ومصر وغزة وسوريا واليمن وغيرها.

يزيد تراجع الجماعات الإرهابية على أكثر من جبهة من جبهات المنطقة، وتتغير أساليب عملها، لتناسب فترات انحسار وكمون ونضوب موارد، وتتقدم الدولة الوطنية، وقواتها المسلحة، سواء فى سوريا أو ليبيا أو مصر أو العراق، نحو تكريس السيادة على حساب الإرهاب الذى يتراجع نسبياً، وإن لم يندثر بعد.

إن التعثر الذى يطبع أداء بعض التنظيمات الإرهابية الفعالة فى المنطقة ذو صلة مباشرة بنضوب التمويل والدعم السياسى والإعلامى الواضح الذى كانت تقدمه قطر لتلك الجماعات.

لكى تقنع قطر وسطاء الأزمة الرئيسيين، وبينهم الولايات المتحدة، والكويت، وفرنسا، ودول أخرى، بالاستمرار فى الوساطة، ولكى تقدم لهم براهين عن تغير مبدئى يمكن أن يفتح حواراً مع خصومها، فإنها تتخلى عن أدواتها الإرهابية جزئياً، وتترك الجماعات التى ساعدت فى تكوينها أو تطوير أدائها وإدامته نهباً للتفتت تحت وطأة الاستهداف الأمنى والسياسى فى أكثر من بلد.

لقد نجحت السياسة التى انتهجتها الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر) فى إجبار الدوحة على تغيير أسلوب أدائها الهجومى والمبادر إلى أسلوب دفاعى ينطلق من موقع الإدانة، ويسعى دائماً إلى إثبات براءته.

كان هذا هو أكبر دليل على نجاعة تلك السياسة، لأنه ببساطة تعبير عن قدرة الدول الأربع، عبر التحرك المدروس الدءوب والملتزم، على تغيير المسلك السياسى لدولة انتهجت سياسات عدوانية ومارقة ومقوضة للأمن والاستقرار الإقليمى.

فمنذ اندلاع الأزمة فى الخامس من يونيو الفائت، طرأت خمسة تطورات مهمة على الأداء السياسى للدوحة، أولها توقيعها اتفاقية مع واشنطن لمكافحة تمويل الإرهاب، وثانيها الإعلان عن «فتح السجلات القطرية أمام الجانب الألمانى» فى إطار تقصِّى ما إذا كانت هناك عمليات تمويل لأنشطة إرهابية، وثالثها وأهمها على الإطلاق الكشف عن بنود اتفاقيتَى الرياض 2013 و2014، وهى البنود التى وقّع عليها أمير قطر، وأعلن من خلالها التزام بلاده بالحد من الأنشطة الضارة والمثيرة للشبهات، فيما يتعلق بالتمويلات القطرية، ورابعها صدور قرارات بتعديلات مهمة للقوانين الجنائية، بشكل يزيد من القدرة على تتبع التمويلات الإرهابية وملاحقة الإرهابيين، وخامسها تغيير لغة الخطاب السياسى والإعلامى القطرى لينطوى على إدانة واضحة ومتكررة للعنف والإرهاب.

كانت قطر تملأ الدنيا وتشغل الناس، وتقدم خطاباً يعكس زهواً وفخراً شديدين، وتعبر الخط بين مساندة حركات المقاومة والحركات الإرهابية، وتتجرأ على الدول الكبرى فى المنطقة، وتسعى إلى تقويض استقرارها، وضربها بالانفلات والفوضى، لكنها الآن تشغل الدنيا بمحاولات الدفاع عن نفسها، وشرح موقفها من الجماعات الإرهابية، وتعديل بنيتها التشريعية لتكون أكثر قدرة على إقناع الوسطاء والفرقاء بتوافقها مع السياسات الرامية لمكافحة الإرهاب.

بسبب حملة المقاطعة المنسقة والمدارة بفطنة وتوزيع أدوار محكم، بدأنا نسمع صراخ قطر، وهو وإن كان صراخاً مكتوماً ومموهاً، فإن الإلحاح على طلب الحوار يفضحه.

تأذت قطر كثيراً جرّاء سياسات المقاطعة الحاذقة، وباتت فى موقف أضعف بعدما زاد اعتمادها فى تمويل وارداتها واحتياجاتها الأساسية على إيران تحديداً، وهو أمر يجبرها على المزيد من التورط مع تلك الدولة التى تمتد أصابعها بالسوء إلى أكثر من بلد عربى.

تدرك قطر أن المقاطعة أجبرتها على انتهاج سياسات لا تتسم بالتوازن، إذ ترفع درجة اعتمادها على قوى مؤثرة بعينها لموازنة الضغوط عليها، وهو الأمر الذى يزيد قابليتها للابتزاز، ويجعلها عرضة للاستنزاف السياسى والمالى، فى ظل تراجع قدرتها على حماية نفسها أو توفير احتياجاتها.

ثمة إشكال أكبر ينتظر الدوحة، إذ تتكثف الضغوط على المواطنين الذين راحوا يشعرون بأن النظام الذى يحكمهم يقطعهم عن محيطهم العربى ويهدد أمنهم الوطنى، بمواكبة ظهور أفراد بارزين من العائلة الحاكمة يقدمون خطابات سياسية عاقلة، مما قد يقود إلى تغيرات داخلية تحسم الأمور وتكفى المنطقة شر القتال والمقاطعة.