الدبلوماسية الشعبية وتغير مسارات اللعبة السياسية

بدأت نوعية جديدة من المشاركة الشعبية فى صناعة التوجهات والسياسات الدولية والإقليمية التى تتبناها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها مع «مؤتمر هلسنكى لحقوق الإنسان» وقراراته المهمة التى أعلنها هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأشهر فى عام 1977 وأطلق عليها اسم «الدبلوماسية الشعبية»، وهى تعنى ببساطة أن تتيح الأمم المتحدة الفرصة لشعوب العالم لتقدم آراء فئات المجتمع عبر جمعيات المجتمع المدنى فى الاجتماعات والمحافل الدولية للأمم المتحدة، التى كانت قاصرة قبل هذا التاريخ على مشاركات حكومات الدول الأعضاء فيها فقط..

ونشطت منذ ذلك الوقت وإلى الآن أشكال مختلفة تعبيراً عن هذا النمط الإنسانى المستحدث للمشاركة الشعبية، منها منظمات محلية وإقليمية ودولية وحملات توعوية ووفود شعبية تقوم بزيارات ولقاءات رسمية وشعبية وأحزاب تفتح فروعاً لأنشطتها فى بعض الدول مع حملات إنسانية إغاثية فى الأزمات الإنسانية.. ويجمع هذه الفعاليات التى تستمر لفترات قصيرة أو تمتد لسنوات تبعاً للحالة أنها يفترض أن تعنى بالقضايا الاجتماعية والمدنية والاقتصادية والظواهر الاجتماعية والثقافية فى دول العالم غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً.. ولم تخلُ الظاهرة الجديدة من إشكالية توظيف الدول لهذه المنظمات المدنية المستقلة فى أهداف سياسية واستخباراتية كان المفترض ألا تقع فيها ولا تتفق مع هدف شعبيتها المجردة من الأهداف السياسية.

وقد فتحت الأمم المتحدة الباب على مصراعيه لتسجيل من يرغب من جمعيات وأحزاب وتحالفات كمنظمات وهيئات معتمدة فى الأمم المتحدة ويتجاوز عددها حالياً عدة آلاف.. ويسمح لها بحضور اجتماعات الأمم المتحدة كمراقبين وتقديم تقارير استشارية تعرض فى الاجتماعات الرسمية للأمم المتحدة كما يسمح لهم بعقد اجتماعات ومؤتمرات وتنظيم فعاليات فى ذات توقيت الاجتماعات الدولية للأمم المتحدة ومنظماتها بهدف الاستماع إلى الرأى غير الرسمى فى القضايا المطروحة والخاصة بدولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة.

وقد تابعنا وشارك بعض مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر تأثير وآليات الدبلوماسية الشعبية على القرارات والتوجهات العالمية إبان مؤتمر المرأة العالمى فى مصر 1996 ومؤتمر مناهضة العنصرية فى جنوب أفريقيا 1998 ومؤتمر الشرق الأوسط الجديد بالرباط فى 2008 وحملات مواجهة المجاعات والأوبئة والاستغلال الاستعمارى فى الصومال ومعظم دول أفريقيا وآسيا طوال العشرين عاماً الماضية.. ونراها اليوم فى حملة إنقاذ الروهينجا فى بورما، ورأينا تأثيرها فى انتخابات اليونيسكو الأخيرة، وغيرها من الأحداث المهمة فى حياة الشعوب فى العالم.. وفى كل مؤتمر دولى تستعد الوفود الرسمية للدول جيداً لمناقشة وتفنيد ما تطرحه تقارير آليات الدبلوماسية الشعبية من انتقادات حتى لا تخسر الدولة المعنية تعاطف وتأييد دول العالم لسياساتها أو ربما تعرضت لعقوبات دولية نتيجة هذه التقارير التى تعجز الدبلوماسية الرسمية عن الرد عليها!!

لم تعد القرارات الدولية تُصنع فى الأروقة المظلمة ولم تعد بعيدة عن تأثير تفاعلات الدبلوماسية الشعبية عليها.. ومن ثم فإن صانع القرار الدبلوماسى فى الدول التى تفرض إرادتها على السياسة الدولية يستخدم بكفاءة آليات الدبلوماسية الشعبية لإنجاح أهدافه بالتوازى مع آليات الدبلوماسية الرسمية وهو ما يحتاج إلى دراسة واعية للواقع الدولى وكفاءات وتخطيط ومداومة وإصرار على تحقيق الهدف مثلما نجحت الدبلوماسية الرسمية والشعبية فى مصر فى ترسيخ شرعية الإرادة الشعبية والنظام السياسى لثورة 30 يونيو 2013 فى ظل حملات مغرضة من منظمات دولية استخدمت آليات الدبلوماسية الشعبية لخداع العالم آنذاك.. كما نجحت الدبلوماسية الشعبية المصرية إلى حد بعيد فى مساندة الدبلوماسية المصرية لتوعية وتوحيد العالم ضد الإرهاب الأسود الجديد الذى يهدد البشرية.

لقد أصبحت الدبلوماسية الشعبية لا غنى عنها فى كل دول العالم لتطوير آليات المشاركة الشعبية للمواطنين على المستوى المحلى لتحقيق أهداف الدولة وإنسانية المواطن.. كما أضحت الدبلوماسية الشعبية، المخلص والمبدئى منها والمحمل بأهداف سياسية داعمة لأهداف غير إنسانية، تؤثر بقوة فى نتائج التفاعلات داخل أروقة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.. وهو ما يتطلب رؤية فاعلة من الدولة لفهم وتفعيل آليات للدبلوماسية الشعبية تقدم صورة حقيقية للواقع وتحرص على الاستقرار والسلم العالمى وتواجه الآثار السلبية للدبلوماسية الشعبية المسيسة والتى تحمل أهدافاً تتناقض مع الحرية والاستقلال والكرامة للبشر.

والله غالب.