كان «ابن عز» بقى بياع «مقشات»: «طربوش النغنغة» لا يزال على رأسى

كان «ابن عز» بقى بياع «مقشات»: «طربوش النغنغة» لا يزال على رأسى
يتعكز على خشبة مُهترئة بالرغم من امتلاكه «عكازات» من خشب الزان يحملها على كتفيه.. يبحث عن طريق مستقيم يسير عليه، ظهره المحنى ووجهه المُنكفئ أرضاً دليل على ضعف قوته وقلة حيلته التى أجبرته على القدوم مُسافراً كل يوم من المحلة الكبرى إلى ربوع القاهرة للبحث عن «رزق» يكفيه قوت يومه فقط بالرغم من أنه «ابن عز»، فعم «عبدالمنعم السيد حرب» -الذى يقترب عمره من الستين- يجوب مقاهى مناطق الحسين وباب الخلق لبيع «شمسية» أو «عكاز» أو «مقشة» بثمن بخس جنيهات معدودة مُستغلا هيئته الساخرة وحنجرته النشاز المُمتلئة بالهموم ويغنى «يا ترى يا حبيبى يا ترى.. إنت فين يا حبيبى يا ترى آه» مدللا على بضاعته فيجذب الأنظار إليه.
الرجل المُسن تنازل عن كل شىء مُجبراً وليس بإرادته، فمنذ نمو أظافره و«كلاب السكك» -على حد وصفه- نهشت فى لحمه، أول عمل ينخرط فيه كان فى التنجيد وقتها كان يبلغ من العمر 7 سنوات، ثم صبى نجار وأخيراً فى ورشة نجارة لتقطيع أخشاب الشجر بالبخار، بدأ رويدا رويداً فى البلوغ، ويا ليته ما بلغ، فهو الابن الأوسط بين شقيقة تعمل طبيبة وأخ يمتلك تاكسى أجرة يعمل عليه، نشأ يتيما بعد وفاة والده مبكراً فهو لا يتذكره سوى من خلال الطربوش الأحمر المُذيل بالخيوط السوداء وسيارته المرسيدس.. كانت والدته هى ملاذه الوحيد وقت الأزمات، وفور وفاتها رأى بعينيه كل شىء: «أختى كانت متجوزة وقتها سمعت جوزها بيقولها لمى كل دهبها وهدومها قبل ما التركة تتقسم خلينا نطلع بأى حاجة»، ولم تجمع بمفردها الأشياء حيث عاونتها زوجة أخيه بينما اكتفى «عبده» الصغير بالجلوس بجوار جثة أمه لتصبح رائحتها الزكية هى الذكرى الوحيدة التى يحتفظ بها.. اللهم إلا طربوش والده المُهترئ الذى اقتنصه من الدولاب القديم الذى يتوسط حجرة النوم.. ليقرر الإخوة الأعداء بيع الورث ويقيم الطفل البالغ مع أخيه الأكبر.
حان وقت الزواج.. أكمل «عبدالمنعم» نصف دينه ثم ما لبث أن أصبح لديه ولدان، تركاه سريعاً فور وفاة والدتهما، فأصبح وحيداً: «كنت وقتها شغال فى النجارة برضه.. ولادى محدش فيهم صرف عليّا جنيه مع إنى محرمتهمش من حاجة.. اللى سافر واللى هاجر».
داخل بيته وعندما اشتد عليه الفقر باع ورشته وقبع داخل شقته ومد يده داخل الدولاب وجلب «طربوش» والده وعمم به رأسه، متذكراً أيام «العز» و«النغنغة» التى قضاها مع والديه.. ومع مرور الأيام وغلاء الأسعار والوحدة القاتلة، قرر أن يجوب شوارع القاهرة ببضعة «عكاكيز» و«مكانس» بعيدا عن بلدته التى لم يرتشف فيها سوى المُر والأسى، ليعود مساء إليها مُنكفئاً داخل شقته ينفخ دخان سيجارته «السوبر» فى أنحائها ويتذكر وقت أن كان «مُرفهاً» ليجد الأصابع تطرق على بابه «الإيجار يا عم عبده».. فيقتنص من جيبه 200 جنيه، ويحتفظ بالبقية المُقسمة بين «معاش السادات» الذى يحصل عليه وفُتات رزقه من بيع العكاكيز.