دلالات وأهداف الدعم الإسرائيلى لاستقلال كردستان العراق

عزة هاشم

عزة هاشم

كاتب صحفي

قام رون بروسور، السفير الإسرائيلى السابق لدى الأمم المتحدة، بكتابة مقال فى «نيويورك تايمز» منذ أيام يدعو فيه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لدعم الدولة الكردستانية، منوهاً بأن دعم الأكراد ليس فقط ذكاء استراتيجياً بل إنه بمثابة «الرهان الفائز»، واصفاً الأكراد بأنهم الحليف الصامد الذى يستطيع أن يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية «جنباً إلى جنب مع الجنود الأمريكيين»، وقد انتقد بروسور موقف إدارة ترامب من الاستفتاء ووصفها له بأنه «استفزازى ومزعزع» وأنه يأتى فى توقيت غير ملائم، وخاطب ترامب قائلاً: إذا كنا سننتظر حتى تنعم المنطقة بالاستقرار التام واختفاء التطرف أو مباركة أنقرة وطهران وبغداد فإننا (على حد قوله) سننتظر للأبد.

المقال كان أقرب لإعلان مدفوع الأجر من فرط حماسة السيد بروسور الذى وجه رسالة لترامب فحواها أنه «يجب» أن يدعم الدولة الكردية المستقلة، والحقيقة أن هذا المقال جزء من حملة استثنائية من الدعم الإسرائيلى المعلن لاستقلال إقليم كردستان العراق، ولم تقتصر الحملة على الدعم السياسى المباشر وإنما امتدت لتشمل دعماً إعلامياً وشعبياً أثار الاستهجان والتساؤل، حول دوافعه وأهدافه، وعلى الرغم من تصاعد التحليلات التى ترى أن هذا الدعم المعلن لن يخدم قضية الأكراد وإنما وفر لرافضى الاستفتاء داخل الإقليم الحجة المنطقية التى تصدق على صحة أن دعاوى الاستفتاء ما هى إلا مؤامرة كردية إسرائيلية، إلا أن ما يجرى فى الواقع الدولى عكس ذلك.

الحقيقة أن زاوية النظر للموضوع هى التى تحكم صحة هذه الرؤى من عدمها، حيث إن هذا الدعم الإسرائيلى الذى أثار الرفض والاستنكار إقليمياً، لم يلق نفس المردود على المستوى العالمى، فلا شك أن دعم إسرائيل القوى والمعلن قد ساهم بصورة أو بأخرى فى دعم موقف أكراد العراق على المستوى الدولى، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار الأذرع ومراكز القوى الإسرائيلية المؤثرة فى المؤسسات السياسية والإعلامية الدولية، إذا لا شك فى أن الدعم الإسرائيلى لعب وسيلعب دوراً فاعلاً فى دعم موقف الأكراد على المستوى العالمى، والتساؤل الأكثر إلحاحاً الآن ليس حول مدى جدوى هذا الدعم، خاصة أن الإجابة قد تبدو أقرب إلى البديهية، ومن هنا يتمثل التساؤل الأكثر أهمية فى أهداف هذا الدعم ودلالاته.

وفى هذا السياق تصاعدت تحليلات عدة ترى أن «التوحد» هو أحد الدوافع المهمة للدعم الإسرائيلى لانفصال كردستان العراق، وأن الإسرائيليين يرون العديد من أوجه التشابه بينهم وبين الأكراد فى رحلتهم للبحث عن وطن، خاصة مع تصاعد التصريحات داخل وخارج العراق بأن استقلال الأكراد يهدد بقيام ما أطلقوا عليه «إسرائيل ثانية» فى شمال العراق، ويضاف إلى هذا التشابه العزلة المتوقعة التى سيعانى منها الأكراد فى حال انفصالهم، والتى تشابه عزلة إسرائيل فى المنطقة، وعلى الرغم من الرجاحة الظاهرية لتلك التفسيرات، لكن العلاقات الدولية، خاصة التحالفات والدعم فى الغالب لا تحركها التعاطف والتوحد مع مصير الآخر بدون وجود مصلحة مادية مباشرة من هذا الدعم، وهو ما يبدو بوضوح فى حال الدعم الإسرائيلى الواضح والمعلن لدعوات الانفصال الكردستانى، الذى لا شك فى أنه ينطلق من جملة مصالح مشتركة للجانبين.

وقد ذهبت بعض التحليلات التى ترددت فى الصحف المحسوبة على الحكومة التركية بعيداً عندما زعمت أن بارزانى وافق على إعادة مئات الآلاف من اليهود إلى المنطقة فى مقابل الدعم الإسرائيلى، وهى تحليلات تفتقر للموضوعية والدقة، إن التأمل الدقيق لمجريات الأمور يُظهر بوضوح أهداف الدعم الإسرائيلى، التى بدت فيما صرح به جدعون سار، وزير الداخلية الإسرائيلى السابق الذى قال «إن الدول العربية تتآكل، وعلينا أن نجد حلفاء مستديمين»، وحث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على بذل المزيد من الجهد للضغط من أجل القضية الكردية فى اجتماعاته مع الرئيس ترامب، حيث صرح «سار» عقب لقاء جمعه بالزعيم الكردى بارزانى قائلاً: «يمكنك أن ترى كم تستثمر إيران فى وجود قوات معادية على حدودنا، لذلك فإن وجود أصدقاء لإسرائيل فى المنطقة مهم للغاية».

وهكذا فإن دعم إسرائيل لاستقلال إقليم كردستان يتفق مع سياستها الخارجية طويلة الأمد، التى ظهرت ملامحها منذ عهد بن جوريون، حيث انتهجت إسرائيل ما أطلقت عليه اسم periphery doctrine، أو «شد الأطراف»، حيث دأبت إسرائيل على محاولة عقد تحالفات مع غير العرب والأقليات فى منطقة الشرق الأوسط لتخلق قوى حليفة موازية لدعمها فى وجه العداء المحيط بها منذ عام 1948.

بالإضافة إلى ما سبق فقد حرصت إسرائيل على إقامة علاقات اقتصادية بينها وبين كردستان، برزت ملامحها فى حجم واردات إسرائيل من النفط الكردى، فقد بلغ مجمل واردات إسرائيل من النفط الخام فى عام 2015 نحو 600.285 برميل فى اليوم (وفقاً لبيانات وكالة الاستخبارات الأمريكية)، يمثل النفط المقبل من كردستان نحو 75 فى المائة من هذه الواردات، وعلى الرغم مما يحيط بهذه التعاملات من سرية، فقد أشار تقرير لصحيفة «فاينانشيال تايمز» نشر فى أغسطس 2015 إلى أن ثلاثة أرباع واردات النفط الإسرائيلية جاءت من أكراد العراق، وأن أكثر من ثلث صادرات النفط الكردستانية العراقية فى الفترة من مايو إلى أغسطس 2015 ذهبت إلى إسرائيل، وقد استند التقرير إلى بيانات الشحن ومصادر التجارة وتتبع الأقمار الصناعية لناقلات البترول، التى أوضحت أن المصافى الإسرائيلية وشركات البترول استوردت أكثر من 19 مليون برميل من النفط الكردى خلال ثلاثة أشهر من بداية شهر مايو وحتى 11 أغسطس 2015.

ولا شك فى أن شراء إسرائيل للنفط من كردستان يعكس منفعة مزدوجة، تتمثل فى إمكانية شراء إسرائيل للنفط بسعر مخفض من ناحية ودعم الأكراد مالياً من ناحية أخرى، وهذا الدعم ليس بجديد، فقد كشفت عنه العديد من التقارير الصادرة عن العديد من المراكز البحثية الدولية خلال الفترة الماضية، حيث ذكرت وكالة رويترز أن إسرائيل بدأت شراء النفط من شمال العراق فى يونيو 2014، وفى نفس التوقيت (يونيو 2014) نشر كريستوفر هيلمان على موقع «فوربس» تحليلاً بعنوان «بيع أكراد العراق النفط إلى إسرائيل يقربهم أكثر من الاستقلال»، وفى الوقت الذى نفى فيه مسئولون فى حكومة كردستان تصدير النفط الخام لإسرائيل، فقد نقلت صحيفة «فاينانشيال تايمز» عن أحد كبار مستشارى الحكومة الكردية قوله «إننا لا نهتم أين يذهب النفط بمجرد تسليمه إلى التجار»، مضيفاً أن: «أولويتنا هى الحصول على الأموال لتمويل قوات البشمركة ضد داعش ودفع رواتب موظفى الخدمة المدنية».

والحقيقة أن الأمر أعقد بكثير من تحالف ومصالح اقتصادية بين إسرائيل وكردستان العراق، فيبدو أن العلاقات أعمق من مجرد دعم، فعلى سبيل المثال عشية عملية التصويت تجمعت مجموعة من الأكراد اليهود فى القدس وقاموا بالرقص والهتاف وقرع الطبول، معبرين عن دعمهم للاستفتاء، وإذا تأملنا هذا المشهد مع مشهد الأعلام الإسرائيلية التى رُفعت فى أيدى عدد من الأكراد فى أربيل، سيبدو لنا أن الدعم الإسرائيلى لكردستان تضمن مختلف أوجه الدعم المتاحة سواء كان دعماً سياسياً أو شعبياً أو اقتصادياً أو حتى دعماً عسكرياً جاء على خلفية علاقات تاريخية بين الجانبين، ولعل أبرز ما يميز هذه العلاقات هى أنها ليست علاقات تقوم على مقتضيات المصلحة الراهنة وتتضمن حاجزاً نفسياً، كذلك الحاجز القائم بين إسرائيل ومحيطها الإقليمى، وإنما هى علاقات تخطو بثقة نحو التحالف لخلق كيان موازٍ يمكن الرهان عليه فى المستقبل ويدق ناقوس الخطر فى الإقليم الذى تتجه تحالفاته التقليدية بخطى واثقة نحو التفكك.