ثرموستات التربية و«رمانة ميزان» التعليم
- أفكار متشددة
- ألفاظ نابية
- التأمين الصحى
- الجامعة الأمريكية
- الدراسات العليا
- الدروس الخصوصية
- العقد الاجتماعى
- العملية التعليمية
- المدارس الحكومية
- آى باد
- أفكار متشددة
- ألفاظ نابية
- التأمين الصحى
- الجامعة الأمريكية
- الدراسات العليا
- الدروس الخصوصية
- العقد الاجتماعى
- العملية التعليمية
- المدارس الحكومية
- آى باد
النظر إلى مصر وحمولتها الثقيلة من المشكلات -بعيداً عن الإرهاب والتطاحنات السياسية والمشاحنات الأيديولوجية - يذكرنى بمن أغلق زرار الجاكيت فضربت سوستة البنطلون. تصلح بعضاً من هنا فينهار كلٌ من هناك. تلصم فرعاً فى اليمين فتنهار الشجرة برمتها. ولأننا فى موسم بداية أوجاع كل بيت وأنين كل أسرة فيها صغار ومراهقون فى سن المدرسة، فقد سعدت ثم تحولت سعادتى إلى تفكير عميق أعقبه اكتئاب شديد بعد مشاركتى فى مؤتمر «معلم» الذى استضافته الجامعة الأمريكية فى القاهرة قبل أيام.
وسبب السعادة الأولية بالمؤتمر -الذى نظمته مؤسسة «علمنى» بالتعاون مع كلية الدراسات العليا للتربية فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة- هو اسمه؛ «معلم»! فكم من مؤتمرات تعقد وإجراءات تتخذ وسياسات تطبق يتم التعامل فيها مع المعلم باعتباره مفعولاً به. يتلقى التعليمات لينفذها، أو تملى عليه التغييرات ليطبقها. ولا تفرق كثيراً إن كان مقتنعاً بها، أو مؤمناً بفاعليتها، أو حتى تم تدريبه على حسن تنفيذها من الأصل.
أصول الدول التى سبقتنا فى مجال النهضة التعليمية تشير إلى أن جانباً كبيراً من نجاح العملية التعليمية يقبع عند المعلم. فهو حجر الزاوية التى يلتقى عندها كل من الطالب وولى الأمر والمدرسة ونظام التعليم ككل. فإن صلح، صلح الجميع، وإن لم يصلح احتاس الجميع وخاب خيبة قوية رنانة كتلك التى نحن فيها.
خيبتنا التعليمية القوية على مدار عقود طويلة مضت أدت إلى تحلل شبه كامل لمنظومة المدرسة. فلا المدارس الخاصة بدرجاتها تقدم «تربية» كما هو منصوص عليه فى اسم الوزارة، ولا المدارس الحكومية أو الرسمية تقدم تعليماً بحسب المنصوص عليه فى اسم الوزارة أيضاً. لكن الوزارة لها حدود للطاقة مهما نشطت، وعندها حد أقصى للقدرات مهما علا.
وعلى سيرة الوزارة، فإن الله وحده وعدداً محدوداً من البشر على علم بما تحتويه هذه الوزارة تحديداً من تشابكات مزمنة، ومصالح مفجعة، وحفريات تأبى أن تتزعزع أو تتتعتع، ناهيك عن الجيوش المجيشة من كبار صغار الموظفين القادرين على توقيف المراكب السائرة، وقت كانت ما زالت سائرة.
وكسائر الفئات والطبقات والشرائح المصرية التى ضربها تجريف عقود طويلة مضت، فإن تجريفاً أو فلنقل «تغييراً» طرأ على منظومة المعلم المصرى. وبقدر ما كانت سعادتى بنماذج من المعلمين (ولا سيما المعلمات) الذين تملأهم حماسة العمل وتنضح من كلماتهم أفكار بناءة وخلاقة تعكس شغفاً حقيقياً بمهنتهم السامية الراقية، بقدر ما ضربتنى حقيقة واقعة حول الفكر الذى يحمله كثيرون من المعلمين وينقلونه دون شك إلى الصغار دون قصد أو بقصد.
خذ عندك مثلاً هذا النموذج؛ معلم فاضل قد يكون قديراً فى مادته ومحبوباً فى فصله ومتميزاً فى مدرسته. ولكنه وقف يشكو ضيق ذات يد معلمى المدارس الرسمية، حيث تدنى الرواتب، وهى مشكلة حقيقية. لكن المعلم الفاضل قال مستنكراً: «كيف أصرف على بيتى ولدى أربعة أطفال؟».
وكما تقول «الست» فيروز: «الله يخلى الولاد»! ولكن لماذا أربعة؟ وهو السؤال الذى وجهته له. فرد المعلم الفاضل نافياً كبر العدد وقال بكل ثقة وتؤدة: «فيه مدرسين عندهم 13 عيل»! فى هذه اللحظة تخيلت ما قد يقوله المعلم والد الـ13 طفلاً وهو يشرح للطلاب درساً عن تنظيم الأسرة ومميزات الأسرة الصغيرة ومغبة الخلفة الكثيرة، والمسئولية المجتمعية التى تحتم على المواطن -حتى لو كان قادراً- ألا يتخذ قرارات شخصية تؤثر سلباً على بقية المواطنين والعقد الاجتماعى المبرم بين الدولة والمواطنين الذى لا ينص على تشعلق الـ13 «عيِّل» فى رقبة الحكومة لتصرف عليهم، والسلام الاجتماعى الذى بموجبه لا ألتزم أنا دافع الضرائب المتوقع لتحسين خدمة المواصلات العامة والطرق والتأمين الصحى بأن تخصص ضرائبى لدعم الـ13 «عيل».
ما الذى سيقوله هذا المعلم لطلابه؟ هل سيقول لهم ما ورد فى الكتاب ثم يحذرهم بأن ما يدرسونه كلام فاضى وأن تنظيم الأسرة حرام ورجس من عمل الشيطان؟ أم سيقول لهم ما ورد فى الكتاب ثم يعلن أن الغرض من الدرس مذاكرته ليجيبوا عن الأسئلة فى الامتحان، لكن عليهم محوه تماماً من الذاكرة؟ أم سيقول ما ورد فى الكتاب دون تعليقات شخصية ولكن بلغة جسد وملامح وجه قوامها «هذا كلام فاضى»؟!
ومن شأن كل عملية إصلاح أو تطوير أو تصحيح أن تتحول إلى كلام فاضى فى حال كان المعلم مجرد اسم على قوائم الرواتب. وكم من قصص وحكايات وحوادث وأحداث نعيشها أو تصل إلى مسامعنا عن المعلم الذى يشتم بألفاظ نابية، أو تلك التى قصت شعر تلميذة لأنها لا ترتدى طرحة، أو الذى يضطهد الطلاب الذين هربوا من مقصلة دروسه الخصوصية، أو الذى لا يتوانى عن بث أيديولوجيته التابعة لجماعة دينية هنا أو أفكار متشددة هناك عبر كبسولات مغلفة تغليفاً متيناً يصعب ضبطه؟
ضبط عملية التعليم لن تستوى حقاً بـ«آى باد»، أو كبسة على مراكز الدروس الخصوصية، أو حمام سباحة لكل مدرسة، أو مناهج يتم استيرادها من «هارودز» أو يصممها «كريستيان ديور». الضبط الأولى يكمن فى عقل المعلم، ومن ثم فى لسانه. ومرة أخرى، ما خضع له المصريون من تفريغ لمحتوى الثقافة وحلحلة للتركيبة المصرية المتفردة الخاصة بالأرض والإنسان والرضا والجمال والمعمار والملبس والغناء والفن إلى آخر القائمة التى جعلت منا مسخاً لا هو بالمصرى ولا هو بغير المصرى، انعكس على الجميع بمن فيهم المعلمون، لكن يبقى المعلم هو ثرموستات التربية و«رمانة ميزان» التعليم، فماذا نحن فاعلون؟!