الديمقراطية فى أرض النفاق
الديمقراطية ليست نظاماًً سحرياً لحل المشكلات، ولكنها تنطوى على كثير من المشكلات، ومع هذا تظل هى أقل نظم الحكم سوءاً فى بلدان العالم الطبيعية، لكن فى الدول المبتلاة تتحول إلى أسوأ نظام، لا بسبب الديمقراطية نفسها، وإنما السبب الفهم المغلوط لها وتوظيفها لأغراض استبدادية، فتارة تتحول إلى ديكور، وتارة تتحول إلى فوضى، وتارة تتحول إلى عقد استعباد للشعوب، وربما تتحول إلى مبرر كافٍ لحمام دم شامل، دفاعاً عن شرعية الصندوق! وباسمها يمكن للغرب أن يدق إسفيناً لإدخالك فى حرب أهلية؛ فلا بد أن تأخذ الدواء حتى لو كان سوف يميتك!
وفى الغرب نفسه لا توجد ديمقراطية كاملة، فلديهم كثير من النواقص، وفى الشرق الديمقراطية لها مذاق خاص، إنها الديمقراطية بطعم الاستبداد!
كيف..؟
أولاً- أن تضع خارطة طريق تحقق مصالحك، تضع فيها العربة قبل الحصان؛ وتدعو الناس إلى التصويت عليها فى معركة تصطنعها كمعركة بين الكفر والإيمان، بين كفار قريش وجماعة المؤمنين. وهنا كانت أكبر العجائب التى انفردت بها مصر بعد الموجة الأولى من الثورة: أن يتم انتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية قبل الدستور، فيمكنك أن تبنى البيت كاملاً، ثم تقوم بعمل الرسم الهندسى! وبإمكانك أن تأخذ العلاج ثم تذهب إلى الطبيب لكى يكتب لك الدواء! وبإمكانك أن تسير فى الفيافى أميالاً، ثم تبحث عن الخريطة!
فى مصر كل شىء ممكن! (مصر فقط).
ثانياً- أن تمارس كل ما هو غير ديمقراطى فى الانتخابات الديمقراطية: تضليل الجماهير أثناء فترة الانتخابات بالدعاية المموّلة من جماعات المصالح التى تملك الأموال (سمة مشتركة بين الشرق والغرب)، أو التى تملك الحديث باسم الله (شرق فقط). مع شراء أصوات الناخبين، سواء بالمال (شرق وغرب)، أو بالزيت والسكر (مصر فقط).
وتملك مجموعات الضغط القوية، حتى إن كانت قليلة العدد تحقيق رغباتها إذا كانت متغلغلة فى النظام العام للدولة، كما هو الحال بالنسبة للوبى اليهودى فى الولايات المتحدة الأمريكية. وكما كان الحال مع لوبى الحزب الوطنى فى العصر البائد (شرق وغرب).
وفى الولايات المتحدة الكلمة النهائية ليست للأصوات الناخبة، وإنما «للمجمع الانتخابى Electoral College»، فالمجمع الانتخابى لكل ولاية باستطاعته أن يرفض الشخص الذى انتخبه الشعب. وأعضاء المجمع يعينون للقيام بهذه المهمة ولهم الحق أن يرفضوا الشخص الذى انتخبه الشعب إذا لم يكن «مؤهلاً» بحسب تقييم المجامع الانتخابية فى الولايات المتحدة. والتعيين يتم تقاسمه (بالأساس) بين أفراد الأحزاب السياسية المسيطرة على الساحة السياسية.
وفى بريطانيا تضمن الأحزاب القوية عدم وصول أى أشخاص لا ترغب فيهم إلى منصب رئيس الوزراء.
ويفرض قانون الانتخابات الرئاسية فى فرنسا على الذين يرشحون أنفسهم الحصول على تزكية عدد غير قليل من الشخصيات الفرنسية البارزة فى المجتمع قبل أن يسمح له الدخول فى الانتخابات. وفى مصر (كلنا يعلم شروط الترشح!).
فالانتخابات فى الدول الغربية أو فى غيرها ليست ديمقراطية بشكل كامل، وربما تكون ضد الديمقراطية الحقيقية (شرق وغرب).
ثالثاً- أن تأتى إلى الحكم بالتصويت، لكنك تأخذ هذه الأصوات بالتأثير على إرادة الناس، مرة بسحر الدين، ومرة بسحر مناهضة الفلول.
أما سحر الدين فهو أن توحد فى وعى الناس بينك وبين الدين، فأنت الإمام وأنت المتحدث باسم العدالة الإلهية، وأنت مثل النبى يوسف، وأما محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيقدمك إماماً للصلاة به! ومن السهل أن تتقبّل الجماهير ذلك على الرغم من أن محمداً أمّ الأنبياء فى الإسراء والمعراج، أما أنت فتؤمه!
وأيضاً يمكنك أن تقنع الناس بأنك المدافع الأول والنهائى عن الشريعة، وفى الوقت نفسه لا تطبّق أى شىء منها! بل يمكنك أن تخالفها فى معظم تصرفاتك، و«الجمع» يتقبّل ذلك.. كيف؟
الإجابة: أنك فى أرض العجائب.
رابعاً- أن تكون الديمقراطية صكاً للاستعباد: فعندما تحصل على الأصوات بأغلبية غير كافية، تعتبر أن انتخابك هو «صك» لأن تفعل ما تشاء، فالديمقراطية فى معتقدك عقد تبعية واستعباد وتفويض إلهى، وليست عقد مشاركة بين طرفين.
وطبعاً تضرب بعرض الحائط قول جان جاك روسو: «إنّ العقد الذى ينصّ على فريقين أحدهما آمر والآخر مطيع، إنما هو عقد غريب». (شرق فقط).
خامساً- أن تكون الديمقراطية تصويتاً فقط، أما ممارسة الديمقراطية فى الحكم، فلا تعرف عنها شيئاً، ولا تريد أن تمارسها، وربما إن أردت ذلك لا تستطيع، لأنك تربيت على منهج الآمر والمأمور. (شرق فقط).
سادساً- أن تعتبر أن الفضل الأوحد فى وصولك إلى الحكم يرجع للفصيل الذى آزرك، وبالتالى لا تهتم إلا بمصالحه الخاصة ولا تركز إلا على أولوياته الخاصة، وأولويات الجهات التى موّلت حملتك الانتخابية. ولا تراعى إلا المصالح الفردية لأعضاء حزبك على حساب الأحزاب الأخرى، وتضعها فى المقام الأول على حساب المصلحة العامة! (شرق وغرب).
سابعاً- أن تحصل بالديمقراطية على سلطات إلهية: فإذا كان رئيس الجمهورية فى الدول الديمقراطية، هو رأس السلطة التنفيذية فقط، ففى عرفك أنه رأس السلطة التشريعية والقضائية، هو الحاكم وهو المشرّع وهو القاضى.. (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ)؟! (شرق فقط).
ثامناً- أن تعلن دوماً شيئاً وتمارس شيئاً آخر: تعلن أنك خادم للشعب، بينما تتصرف كسيد والشعب كعبيد، تعلن المصالحة والتوافق، وتمارس الإقصاء والاستبعاد، تدعو إلى الحوار الوطنى بينما لا تتحاور إلا مع أنصارك، تدعو إلى الإسلام، بينما لا تقتدى برسوله فى المصداقية والتوافق ولمّ الشمل وقبول الآخر، تدعو إلى الاستقلال الوطنى بينما ترتمى فى أحضان الغرب، تعلن معاداة إسرائيل، بينما تحقق مصالحها بشكل غير مسبوق!
على أية حال إن العالم المعاصر الذى يرفع شعار الديمقراطية يشتمل على جوانب كثيرة غير ديمقراطية.
والسؤال هل كل هذه المشكلات سبب كافٍ لرفض الديمقراطية، أو التقليل من جرعتها؟
الإجابة: لا.
فحل مشكلات الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية.. لكن كيف؟
للحديث بقية..