آخر مقالات د. رفعت السعيد لـ«الوطن»: عودة عيسى بن هشام (2 - 2)

آخر مقالات د. رفعت السعيد لـ«الوطن»: عودة عيسى بن هشام (2 - 2)
- الجزء الأول
- الدكتور رفعت السعيد
- جمع الأموال
- رئيس الوزراء
- شريف إسماعيل
- غير الشرعيين
- محمد على باشا
- آلام
- أحلام
- أذن
- رفعت السعيد
- الجزء الأول
- الدكتور رفعت السعيد
- جمع الأموال
- رئيس الوزراء
- شريف إسماعيل
- غير الشرعيين
- محمد على باشا
- آلام
- أحلام
- أذن
- رفعت السعيد
تنشر «الوطن» آخر مقالات السياسي البارز والمفكر اليساري الراحل الدكتور رفعت السعيد، وهو الجزء الثاني لـ«عودة عيسى بن هشام»، والتي نشر الجزء الأول في الثاني عشر من الشهر الجاري قبل رحيله.
وإلى نص المقال
ونواصل رحلتنا مع عيسى بن هشام، مصطحباً فى خيال الكاتب المبدع محمد المويلحى أحمد باشا المنيكلى ناظر الجهادية فى عصر محمد على باشا، ليتجول به فى أنحاء مصر، وعلى أصحاب مهنها، ويرينا الفارق بين مصر 1910، وبين ما كان من مائة عام وينكأ جراحاً بمشرط حساس، فإذا بالجراح تأتى إلينا نحن فى 2017 وكأنها توجّه إلينا آلام المقارنة بيننا نحن وبين ما كان فى المائة الأولى وما كان فى المائة الأخرى قبلها.. ونبدأ بلقاء تحدث فيه متحدث مفوه فقال: «إنا نعلم يا معشر الأمراء والحكام أنكم جمعتم أموالاً طائلة واتخذتم الحكم والسلطان كتجارة من التجارات وبضاعة من البضاعات ولم تعلموا للحكم من مزية سوى اكتناز الأموال واستلاب الحقوق وكنتم سواء اكتسبتم المال من الحلال أو من غير الحلال لا تبالون بالضعيف المسكين وظلمتم البرىء وبرّأتم الظالم.. واجترأتم على الله فى أوامره ونواهيه وكلفتم أصحاب العمائم بتأويلها على أهوائكم، فأولوها لكم سعياً وراء رزق يقتاتون به من فضلاتكم» [صـ75]. ويحكى لنا «المويلحى» رحلة صعبة تتماثل مع ما نحن فيه الآن من حيل واحتيالات وظلم ومناكفات مع موظفى الأوقاف والمحامين الشرعيين، وغير الشرعيين، ونتوقف كمثال عند الأطباء فهو يحكى كيف مرض «المنيكلى باشا»، وكيف تلاعب به الأطباء، وكل يمتص منه المال الطائل ويكتب له دواء مؤكداً لا بد أن تشتريه من صيدلية فلان، حتى ذهبوا إلى طبيب محترم وأمين، فقال إن علة المريض ناشئة عن انفعالات نفسانية، فلما وجد الباشا الخلاص والعلاج وأخذ فى مدح الطبيب فرد عليه قائلاً: «لا فضل لى يستحق كل هذا المديح والسبب فى خطأ الأطباء أن العدد الأعظم منهم يعرف علاج عدد من الأمراض فيُحدد الدواء فى إطار واحد منها، ولا يُكلف نفسه بالنظر إلى حال المريض واختلافها عن غيره من المرضى.. وبعضهم لا يرى فى مهنته إلا فرصة لاجتلاب المال واصطياد الربح وكل الوسائل إليه مقبولة، فهو يدخل على المريض طامعاً فى ماله، لا طامعاً فى شفائه، ويحتال عليه بأنواع الحيل لتطول مدته فى المرض». ثم قال «إن العلم عندنا نحن الأطباء إما علم تستنير به البصائر وتهتدى العقول، فيترك أطيب الأثر مع المرضى، أو علم تصدأ منه الأفهام وتضل منه الأحلام، وينتهى بعظيم الضرر على المريض» [صـ148]، وعندما تعافى الباشا من مرضه آثر أن يتعرّف على هذا الزمان الجديد فاصطحبه عيسى بن هشام إلى أحد البارات، حيث «العمدة»، وقد باع القطن للسمسار الذى نهب منه ثورته، وأتى به إلى البار ليمتص الباقى، وكان الخمر والرقص والطبل والزمر والخلاعة، ثم ذهب الباشا إلى الهرم، متباهياً بحُسن الصنعة وقوة البناء وعظمة البناءين التى تباهى بها مصر كل الأمم، وإذا به يستمع إلى «خليع» يقول «ما من عظمة فى هذا البناء ولا فائدة سوى أن بعض القدماء من أغبياء الطغاة كانوا يعتقدون بالرجوع إلى الحياة بعد الممات». ونمضى بعد ذلك إلى عيسى بن هشام ومحمد المويلحى يقص علينا من بديع الأقوال الحكيمة ليضعها لنا غذاءً لعقولنا على لسان أحمد المنيكلى باشا، ومنها «العفو زكاة الفوز، والاستشارة باب الهداية، وكم من عقل أسير عند هوى الأمير، ومن لان عوده كثرت أغصانه، ومن لانت كلماته وجبت محبته» ويقول من مساوئ الصفات «الكاذب بعيد تماماً عن الفضل، والمتملق أسوأ حالاً من الكاذب، والمعجب بنفسه أسوأ حالاً منهما لأنهما يريان النقص عندهما ويريان إخفاءه، أما هو فقد عمى عن عيوب نفسه فيراها محاسن»، ثم كان أن اصطحب عيسى بن هشام إلى مجلس لقرناء الباشا القدامى ورفقائه.
ونقرأ ما كان «فخلعنا نعالنا وتقدمنا أمامنا والأمير ومن معه جلوساً متربعين مستمعين يضىء وجهوهم نور الشيب والوقار ونظرت إلى الباشا فوجدته لا يريد المبادرة إلى كشف أمره قبل انتهاء الحاضرين من حديثهم الذى أفاضوا فيه من مديح محمد على باشا وذكائه واستجماع رجاله على ولائه بحُسن أدائه معهم ولهم، وقدرته على تربية نفوسهم بالأمانة له ولخدمته فكان له من خدموه بالصدق وتفانوا فى ذلك.. وقال أحد الجالسين وأنا أقص عليكم واحدة أخرى تشهد بلطف سياسته». [ولكننى أستأذن القارئ قبل هذه الحكاية أن أطلب من معالى رئيس الوزراء شريف إسماعيل أن يستمع إليها معى لعله يدرك أن سياسة العصف العنيف بالفقراء وفرض الأعباء عليهم قصراً ودفعة واحدة ليست حكيمة]، ونعود إلى الحكمة «أراد أحد المديرين أن يتفوق على إخوانه فى التقرب من محمد على لينال مكانة عالية عنده، فتغالى فى جمع الأموال وأخذ منهم ما يؤدونه على المحاصيل ليس فى موعدها، وإنما دفعة واحدة، فضجوا واشتد صياحهم حتى بلغ مسامع ولى النعم، فأمر بإحضار المدير، ولما وقف فى حضرته، قال (تعال)، وأخذ بعنقه فى قبضة يده، وصار ينتزع من رأسه شعرة ومن قفاه شعرة ومن شاربه شعرة والمدير لا يجد فى ذلك إلا الألم الخفيف، ثم انتقل إلى لحية الرجل، فانتزع منها خصلة كبيرة دفعة واحدة، فصرخ الرجل ونبع من مكان الخصلة دم غزير، فقال محمد على: هكذا تختلف المعاملة مع الرعية، فإن أخذت من ها هنا درهماً ومن ها هنا درهماً خف الوقع على الأهالى، لكن إذا أخذته دفعة واحدة ضج الأهالى.. فإياك والتعامل بعد اليوم مع الأهالى بما يُلجئهم إلى الاستياء. وأنا لا أوافق على ما يؤذى الفقراء، لا دفعة واحدة، ولا دفعات، ولى رأى آخر اسمه العدل الاجتماعى، أنتم لا تعرفونه ولا تقبلونه وتكتفون بتدليع المليارديرات وكبار كبار التجار، ومنحهم المزيد من فرص الثراء، بينما تجردون الفقراء من لقمة الخبز». ومع ذلك يبقى الدرس مفيداً لمن أراد أن يستفيد.