تحديات فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة

ربما لا يكون من حق أحد غير القائمين على الجيش والأمن تحديد موعد فاصل لتنفيذ فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، بعد أن كلّف مجلس الوزراء وزير الداخلية باتخاذ الإجراءات اللازمة لفض الاعتصامين فى إطار الالتزام بأحكام القانون والدستور ومبادئ حقوق الإنسان، لأن الجيش والأمن وحدهما هما اللذان يستطيعان تحديد الموعد الصحيح الذى يضمن نجاح العملية وتقليل خسائرها البشرية إلى الحد الأدنى، وحساب آثارها ونتائجها على جبهة الداخل وعلى الرأى العام العالمى الذى لا يزال يعتقد، مع الأسف، أن المعتصمين فى الميدانين يتعرّضون لاستخدام مفرط فى القوة أدى إلى وقوع مذبحتين كبيرتين، أمام مقر الحرس الجمهورى وفى ساحة الجندى المجهول وسط شارع النصر، رغم أن المعتصمين لا يفعلون أكثر من الخروج فى تظاهرات سلمية تتعرّض لمداهمات الشرطة والبلطجية بهدف حرمانهم من حق التظاهر! ومع الأسف لا تركز الصحافة الغربية فى تقاريرها أحادية الجانب على عمليات الإغارة شبه اليومية التى يقوم بها جماعات من المعتصمين تخرج من الميدانين تقطع كل ليلة الطرق والمحاور الحيوية للقاهرة، وتشتبك مع جماهير المصريين التى تعترض على إرباك المرور وشل حركة الناس فى معارك يومية، يستخدم فيها أنصار جماعة الإخوان الهراوات الثقيلة والخرطوش وطلقات الرصاص الحى، يضربون الناس بفظاظة بالغة، ولا تتحدث عن عمليات التعذيب التى تُجرى فى مقار الاعتصام لعشرات الأفراد يلفظون أنفاسهم تحت وطأة التعذيب ويتم إلقاء أجسادهم فى العراء! كما تغفل تقارير الصحافة الغربية عن استخدام النساء والأطفال دروعاً بشرية، وإرغامهم على ارتداء الأكفان فى تظاهرات تقدّمهم للناس على أنهم مشاريع شهداء، وعن عمليات هدم وتفكيك أرصفة شوارع مدينة نصر لاستخدامها فى بناء دشم وسواتر يتخفى وراءها مسلحو الجماعة، وتلتزم الصمت إزاء التهديدات المباشرة التى تصدر عن قادة الجماعة، تعلن عزمها إعلان الحرب على الجيش والشرطة، فضلاً عن الدور المتواطئ الذى تقوم به الجماعة مع تنظيمات السلفية الجهادية التى تواصل هجومها على معسكرات الأمن والجيش فى سيناء، وإذا كان تحديد الموعد الصحيح لفض الاعتصامين من حق الأمن والجيش وحدهما فى ضوء حساباتهما العملية، فربما يكون من الضرورى الحرص على ألا تتسع المسافة الزمنية بين قرار التفويض الذى صدر عن الشعب فى 26 يوليو الماضى وموعد فض الاعتصامين، حرصاً على ألا تهتز ثقة الناس فى الجيش والشرطة أو يفتر حماسها ويصيبها الإحباط. وما ينبغى أن يعرفه الجميع على وجه اليقين، أن المهمة ليست سهلة ويسيرة لوجود جماهير ضخمة تشارك فى الاعتصامين بصرف النظر عن دوافع معظمهم، كما أن عمليات الشحن النفسى وغسيل الأدمغة التى تجرى على مدار الساعة فى الميدانين المكتظين بالنساء والأطفال ربما تدفع الكثيرين إلى الهرب بجلودهم لحظة فض الاعتصام، لكنها سوف تدفع آخرين إلى الصمود الانتحارى فى مواقعهم، الأمر الذى يمكن أن يؤدى إلى وقوع خسائر بشرية غير قليلة مهما بذل الجيش والأمن من إجراءات احترازية تهدف إلى تقليل الخسائر، ومهما تكرّرت تحذيراتهما ونداءاتهما تطالب المعتصمين بالخروج الآمن من الميدانين، لأن قادة الجماعة يعرفون جيداً أن الاعتصام هو ورقتهم التفاوضية الأخيرة التى يمكن أن تساعدهم على كسب اهتمام المجتمع الدولى وتمكّنهم من تحقيق مكاسب مهمة على مائدة التفاوض إذا جلست جماعة الإخوان والحكم الجديد بحثا عن تسوية رشيدة، لكن فض الاعتصام يعنى نهاية هذه الورقة، كما يعنى اختفاء الدروع البشرية التى تحمى هؤلاء القادة الذين يختفون وسط حشود الجماهير وبعضهم يحمل آثار دماء على يديه، وتورط فى ارتكاب جرائم نكراء تصل إلى حد الخيانة تستوجب المساءلة والمحاكمة. ويزيد من صعوبة المهمة حالة الإنكار والعناد التى تتلبس قادة الجماعة وتدفعهم إلى طلب المستحيل والإصرار على ضرورة أن ترضخ الدولة لشرطين أساسيين من مطالبهم، أولهما عودة الرئيس المعزول إلى الحكم ولو لساعات محدودة ينقل خلالها سلطاته إلى حكومة ائتلافية جديدة تشرف على إجراء انتخابات برلمانية تجرى فى ظل دستورهم المعيب، وثانيهما أن توافق الدولة صاغرة على خروج آمن لكل هؤلاء القادة يعفيهم من المساءلة عن الجرائم التى ارتكبوها، ويمكّن الجماعة من استئناف دورها السياسى شريكاً فى الحكم وكأن شيئا لم يكن!، رغم علم الجماعة المؤكد باستحالة الاستجابة إلى هذين المطلبين اللذين لا يملك أى من المسئولين عن حكم مصر الآن إقرارهما أو تنفيذهما لتصادمهما مع الإرادة الشعبية لغالبية المصريين، التى عبّرت عن نفسها فى خروج عشرات الملايين إلى الشوارع أيام 30 يونيو و3 يوليو و26 يوليو، تجسد الديمقراطية الكاملة فى منابعها الأصيلة، لأن خروج المصريين فى هذه الأيام الثلاثة الذى تجاوزت تقديراته 30 مليون نسمة على الأقل من خمسة وخمسين مليون مصرى لهم حق التصويت والانتخاب، يعنى اكتمال جمعية عمومية صحيحة للشعب المصرى، تملك حقاً مطلقاً فى القرار يفوق فى قيمته وديمقراطيته أى قرار يصدر عن ممثلى الشعب ووكلائه داخل البرلمان، كما يفوق فى روعته وجلاله تعداد الناخبين الذين لم تتجاوز أعدادهم فى انتخابات الرئاسة الأخيرة 27 مليون نسمة، ومع ذلك تصل بجاحة التضليل إلى حد الادعاء أن ما حدث فى مصر مجرد انقلاب عسكرى، وأن يوم 30 يونيو كما يقول خيرت الشاطر فى حواره مع عمرو موسى لا يعدو أن يكون مثل أى يوم آخر، يأتى ويمر مرور الكرام لكنه لا يعنى شيئاً فى حياة المصريين، لأن المهم هو الصندوق! وليست إرادة شعب خرجت غالبيته إلى الشوارع تطالب بعزل الرئيس مرسى وإنهاء حكم جماعة الإخوان، وتستنجد بالجيش كى يساعدها على تحقيق إرادتها المشروعة بدلاً من الدخول فى حرب أهلية.. تلك هى الحقيقة الواضحة كشمس النهار، التى تنكرها جماعة الإخوان، والتى لم يملك وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أخيراً سوى أن يؤكدها، عندما أعلن بكل وضوح الكلمات قبل يومين، أن خروج المصريين المدهش إلى الشوارع هو العامل الأهم فى الصورة، وأن الجيش المصرى لم يتدخل من أجل البقاء فى السلطة، لأنه ترك حكم البلاد لحكومة مدنية، ولكنه تدخّل لإنقاذ مصر من حرب أهلية شبه مؤكدة، وحفظ بتدخّله فرصة إقامة حكم ديمقراطى فى مصر، أما القول بأن ما حدث مجرد انقلاب عسكرى فأمر يصعب تصديقه، ومع الأسف لا يزال هناك من يصر على وجود تجمعين شعبيين كبيرين يقتسمان إرادة الشعب المصرى، تتناقض أهدافهما، ومن المستحيل أن يغنى أحدهما عن الآخر، وما من حل لهذه المعضلة سوى أن يجلس الطرفان معاً إلى مائدة التفاوض بحثاً عن حل سياسى، رغم أن التقديرات الأخيرة لمعهد جالوب الأمريكى للإحصاءات تقول بوضوح فى تقارير أخيرة، إن حجم أنصار جماعة الإخوان لا يتجاوز فى أكثر التقديرات سخاءً 18% من حجم الناخبين المصريين، وأن الغالبية العظمى لا تريد حكم الرئيس المعزول وجماعته. والواضح من مجمل أبعاد الصورة الراهنة أن هناك هدفاً خفياً وراء إصرار قوى غربية عديدة على بدء عملية تفاوض بين الحكم الانتقالى وجماعة الإخوان يضمن لها المشاركة فى الحكم، رغم اعتراف كل الوسطاء الأوروبيين والأفارقة أن البون شاسع بين مواقف الجانبين يصعب ردمه وإغلاقه، فى ظل إصرار الجماعة على تنفيذ مطالبها بالإفراج الفورى عن كل قادتها الموجودين رهن التحقيق قبل البدء فى أى تفاوض.. وأظن أن هذا الهدف الخفى يخلص فى تفكيك قوة جبهة مصر الداخلية التى تضم غالبية الشعب والجيش والشرطة ومعظم مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى، لأن المطلبين الأساسيين لجماعة الإخوان لا يتصادمان فقط مع إرادة غالبية الشعب المصرى الذى يرفض المطلبين بصورة قاطعة، ولكنهما يخالفان أيضاً شروط الدولة القانونية المحترمة التى تحرص على تطبيق حكم القانون على الجميع مهما يكن الثمن، لأن التفريط فى تطبيق حكم القانون يعنى استحالة قيام الدولة المدنية الديمقراطية التى يريدها كل المصريين. وأكاد أقطع بأن أول أهداف هذه المبادرات المسمومة هو زرع الشقاق بين رفاق الجبهة الوطنية وتفكيك قدرتها على الصمود، وفصد علاقتها القوية مع غالبية الشعب المصرى التى ترقب الموقف الراهن بقلق وحيرة بالغين، وتحس أن الغرب يطبخ طعاماً مسموماً للمصريين أو ينصب فخاً يمكن أن يقع فيه بعض فرقاء الوطن الذين يقلقهم احتمال كثرة عدد ضحايا فض الاعتصامين، ويفضلون حلاً وسطاً يفض الاعتصامين بالتفاوض وليس بالقوة، ويساعد على إعادة دمج جماعة الإخوان المسلمين فى الحياة السياسية بدعوى أنها رقم صعب يستحيل إهداره، لأن إهداره يمكن أن يشكّل خطراً على أمن البلاد واستقرارها، والمؤسف أنه فى الوقت التى تتعرّض فيه جبهة مصر الداخلية لخطر التفكّك بسبب الخلاف حول وسائل فض الاعتصامين، يزداد إصرار جماعة الإخوان على التكتل والرفض والصمود، ويحاولون دفع السلفيين كى يكشفوا عن وجههم الآخر بصراحة ويسقطوا كل تحفظاتهم السابقة على الجماعة ليصبحوا كلاً واحداً، فضلاً عن سياسات التضليل التى تمارسها الجماعة، وتصور للعالم أنهم فقط يمارسون حقهم فى التظاهر السلمى. إن أحداً لا يريد الصدام الأهلى أو يحبذه لأن سفك دم المصرى حرام على كل مصرى، لكنه من غير العدل أن يخسر المصريون كل مكاسبهم فى لعبة خادعة، خوفاً من سقوط بعض الضحايا فى محاولة فض الاعتصامين، وأظن أن ذلك هو السذاجة بعينها، لأن عودة جماعة الإخوان إلى الحكم دون مساءلة المتهمين الذين لا يزالون يحملون آثار دماء على أيديهم، وإدماجها فى الحياة السياسية وكأن شيئاً لم يكن، يعنى أن نسلم القط مرة ثانية مفتاح الكرار يعبث داخله كما يشاء، ويمارس حكمه الفاشى من جديد، يخطط لهدم الجيش والأمن والقضاء ويمارس أقسى صور الانتقام والكراهية، وما من حل صحيح للأزمة الراهنة إذا لم تكن بدايته الصحيحة الانسحاب الفورى من كل الميادين والالتزام الصارم بوقف العنف، وتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية على الجميع فى جدول زمنى معلن قصير الأجل، ومد مظلة العفو إلى كل قيادات الجماعة الطاعنة فى السن ولا تحمل على يديها آثار دماء أو تكون قد تورّطت فى جرائم تصل إلى حد الخيانة تستوجب المساءلة القانونية، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى أسرع وقت بعد كتابة الدستور وإخضاعها لإشراف القضاء وللرقابة الدولية والوطنية، وإذا لم يكن هذا الحل مقبولاً من جماعة الإخوان فإن فى وسعها البقاء فى الميدانين شهراً آخر أو شهرين، شريطة إعمال القانون بحزم واضح، ومنع أى مسيرات تخرج من الميدانين تهدف لقطع الطرق والمحاور وتعويق مصالح العباد، وفى جميع الأحوال فإن على جماعة الإخوان أن تتكبد كل الخسائر الضخمة التى أحدثتها فى أماكن التظاهر والاعتصام.