عودة عيسى بن هشام (1-2)
- شهادة التخرج
- كتاب الله
- محمد على باشا
- آثار
- آن الأوان
- أبو
- شهادة التخرج
- كتاب الله
- محمد على باشا
- آثار
- آن الأوان
- أبو
ولقد يتبدى الاسم غريباً على أسماع الكثيرين، ولكن آن الأوان للاستماع إليه. فالمؤلف محمد المويلحى حاول أن يقارن بين أوضاعنا وعقولنا وأفكارنا وبين ما كان فى الزمن السابق، مكتشفاً -ويا للدهشة- أننا فى أكثر الأحيان وقفنا على حدود ما كان فى الماضى أو حتى ما هو أسوأ منه.. وأمسكت أنا بالكتاب فبهرنى، واكتشفت أنه وبعد أكثر من قرن وعدة سنوات قد مرت لتأتى بنا ونحن لم نزل نلوك ما كان فى زمانه ثم نردد أسوأ منه وأكثر تخلفاً، وكأن الزمان يرتد بنا إلى وراء الوراء، وتبدأ الكتابة المبهرة التى تخلط بين الحكاية والرواية والتسجيل، وإدخال ما كان فى الماضى وعبر سياق درامى التشويق إلى سيناريوهات تجتذبك وتربطك بوثاق المقارنة بين ما هو كائن الآن وبين ما كان فى الماضى وحتى ما قبل ما نعتبره نحن ماضياً. ويبدأ «المويلحى» ملحمته التى لا أجد لها اسماً أو تعريفاً قائلاً: رأيت فى المنام كأنى فى صحراء الإمام أمشى بين القبور أتأمل أن تلك الرفات والعظام بقايا من الملوك العظام الذين كانوا يستصغرون الأرض داراً، ويحاولون عند النجوم جواراً فرأيت قبراً ينشق من تلك القبور ويخرج منه رجل طويل القامة عظيم الهامة هو المنيكلى باشا ناظر جهادية محمد على باشا، ويبدأ «المويلحى» معه رحلة الاستكشاف والمقارنة بين الحاضر والماضى. ونكتشف فى البداية أن الزمان يغير معانى الكلمات فيعطى لبعضها معانى مختلفة: فالباشا إذ يسمع كلمة «السوابق» فى قسم البوليس يتصور أنها الخيول المسرعة، وكلمة «الشهادة» يعتبرها الباشا الاستشهاد فى ميادين القتال وليس دليل التخرج عبر دراسة ما.. وهكذا. ثم نأتى إلى مفارقات تستحق الالتفات؛ فالباشا سمع كلمة «جرائد» أى الصحف، فسأل عنها وإجابة ابن هشام «هى أوراق تطبع كل يوم أو كل أسبوع تجمع وتسرد فيها الأخبار ليطلع الناس على أحوال الناس، وهى أثر من آثار المدنية الغربية والأصل فيها العمل لانتشار الفضيلة والذم للرذيلة والتنبيه إلى مواطن الخلل والحض على إصلاح الذلل وتعريف الأمة بأعمال الحكومة حتى لا تجرى الأمور بها إلى غير المصلحة. وبالجملة فإن أصحابها هم فى مقام العالمين الفاهمين»، ويتركنا عيسى بن هشام للمقارنة بين ما هو مفروض وما نحن فيه الآن. ولكن الباشا يقول «إذاً لا بد أن يهتم بهذه الجرائد كبراء العلماء وعظماء المشايخ الكرام». ويرد ابن هشام «إن علماءنا ومشايخنا هم أبعد الناس عن هذا، وهم يرون أن الاشتغال بهذه المهنة بدعة من البدع وفضولاً تنهى عنه الشريعة فلا يأبهون بها، وقد مارس هذه الصناعة من فيهم الفاضل وغير الفاضل واتخذها بعضهم مجرد حرفة للتعيش فلا تجد بينهم وبين أهل الحرف وباعة الأسواق فرقاً فى الغش والخداع والكذب والنفاق والمكر والاحتيال، فذهب منها الغرض المقصود وسقط شأنها بين العامة بعد أن سفل قدرها عند الخاصة، وأصبح ما كان يرجى فيها من النفع دون ما تجلبه من الضرر ومن العقلاء من لا يزال يرجو من الأيام أن تدور يوماً بتهذيب الحال» [صـ55]، ولست أريد أن أعلق على ما أتى به «ابن هشام» ولا على ما نحن نراه الآن. ونمضى مع الباشا فى جولته مع عيسى بن هشام لنتابع بعض أحوالنا، فالباشا يلقى خطبة مطولة يقول فيها «إن مغفرة الرحمن وسكنى الجنان لا ننالها بكثرة الصوم والتبرك بالأحجبة والتحصن بالأوراد، فما تكسب الدرجة الرفيعة عند الله إلا بالعدل والإحسان وفعل الخير واجتناب الشر، والرحمة بالضعفاء والمساكين فعليكم بالعدل والإحسان وتقوى الله فى معاملة عباده» [صـ108] وفيما يتجولان رأى الباشا شيخاً معمماً سميناً ومتعجرفاً يغلظ القول، فقال سمعت أن سيدنا عمر قال إن الله يكره الحبر السمين، وسمعت الشيخ «أبوتراب» وهو يقول «أشكو إلى الله من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلالاً ليس لديهم سلعة أكثر بواراً من كتاب الله إذا تلى حق تلاوة، ولم يحرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر». وفيما يحضران أحد مجالس الوعظ يعظ فيه حكيم يسترق النفوس بطلاقة لسانه، وسمعاه يقول «المخير بين أن يستغنى عن الدنيا وبين أن يستغنى بالدنيا، كالمخير بين أن يكون مالكاً أو مملوكاً» [صـ176] ثم هو يتحدث عن زمرة الأغنياء فيقول «وأهل الثروة منهم يقضون بعض الأشهر مرتحلين فى بلاد الأجانب للنزهة والتفكه، وقصارى العلم عندهم أن يتلقى الطالب أشتاتاً منه فى المدرسة وهو بالسن التى لم يصل فيها إلى تمام التعقل وكمال الإدراك فيحفظها ويؤديها كالببغاء، فإن نجح فى آخر الدراسة ونال شهادة التخرج نفض يده تماماً من تلك العلوم التى تعلمها ونبذها انتقاماً لما عاناه منها من مشقة الحفظ، وما قاساه من تعب فى دراستها، وفى كل الأحوال فإنه لم يذق لها مزية فى ذاتها، أو حلاوة فى طعمها، فهو فقط قد نال منها ما أراد ودخل فى خدمة الحكومة وأصبح كالعامل من العمال لا العالم من العلماء. ولذلك أصبحت كتب العلم والأدب منبوذة وتثير الملل وثقل على الناس مطالعتها.. أما كبراؤنا وأمراؤنا اليوم فقد استغنوا عن تزيين مجالسهم بالعلم والأدب وقصروا همهم فيها على التفاخر بالمقتنيات المزخرفة» [صـ179].
ولست أعتقد أننى بحاجة إلى تعليق.. فقط أريد أن أذكر القارئ أن هذه الكتابة كانت عام 1910 وأنها كانت تنعى على الزمان أنه تدهور عما كان منذ مائة عام أخرى.. أما نحن وبعد مائة عام ثالثة فهل اختلفنا عما كان أم حتى تراجعنا عنه؟
هذا هو السؤال المخيف الذى لا يتطلب جواباً، لأن الجواب سيغرق بنا فى لجة من الخوف الشائك من المستقبل الحالك.. ونواصل.