أصحاب الورش والمصانع: نموت بالبطىء.. ونواجه مصيراً مجهولاً بسبب أسعار الخامات
أحد أصحاب ورش الأحذية يروى لـ«الوطن» أسباب تدهور صناعة الأحذية
يواجه أصحاب ورش ومصانع الأحذية، سواء من الجلد الطبيعى أو الصناعى، مصيراً مجهولاً لهذه الصناعة العريقة التى أصبحت «على كف عفريت» بسبب مجموعة من الأسباب اجتمعت فى وقت واحد لتوجه «جرس إنذار» قوياً إلى الحكومة وكل القائمين على ملف الصناعة فى مصر قبل أن يعض الجميع أصابع الندم ونعتمد بشكل كلى على احتياجاتنا من الأحذية على الاستيراد من الخارج وهو الأمر الذى يضرب الصناعة الوطنية فى مقتل.
«عرابى»: مفيش ورش شغالة بـ«الجلد الطبيعى» لأنه غالى أوى.. و«عباس»: نعانى من نقص الصنايعية.. و«صالح»: «أقل جزمة بتتكلف 150 جنيه فين اللى هيشتريها بالتمن ده؟!»
فأصحاب الورش والمصانع أجمعوا على أن هناك 5 أسباب جوهرية ساعدت على تعميق أزمة صناعة الأحذية فى مصر تتمثل فى غياب الصنايعية والأيدى العاملة بشكل ملحوظ واكتفاء الورش بأصحابها فقط، وانصراف الصبية والشباب عن تعلم المهنة، وتصدير الجلد الطبيعى فى مراحله الأولية بدلاً من الاستفادة منه فى السوق المحلية، بخلاف المشاكل المادية التى يُعانى منها العاملون فى هذه الصناعة بسبب الركود وارتفاع أسعار مستلزمات الصناعة بشكل كبير.
«الوطن» قامت بجولة فى منطقتى باب الشعرية والدرب الأحمر لرصد الأزمة على الطبيعة من أصحابها والمتضررين من تفاقم الأوضاع حيث أكدوا أن الأمور تتجه من سيئ إلى الأسوأ فى ظل اكتفاء بالفرجة فقط دون اتخاذ إلى قرار يساعد المتضررين على العودة للحياة من جديد.
بداية الجولة كانت من حى باب الشعرية حيث يجلس «عرابى محمد»، 68 عاماً، داخل ورشته الصغيرة مرتدياً نظارة طبية تساعده على الرؤية ومحاربة آثار تقدم العمر، بعد أن أمضى أعواماً طويلة داخل هذه الغرفة المزدحمة بالأحذية والخامات الأولية لصناعته، تحت مروحة معلقة بالسقف تخفف عنه حرارة الطقس والأسعار وانحدار المهنة.. وبمجرد أن بدأنا التعارف وشرحنا سبب الزيارة بادرنا بالقول: «طول عمرنا أساس الصنعة بتاعتنا الجلد الطبيعى من الألف للياء، لكن النهارده مفيش أى ورشة بتعمل الأحذية من الجلد الطبيعى، لأن سعره غالى وأى تاجر هييجى عاوزها مش هيلاقيها والزباين مش عاوزة حاجة غالية عليها».
وتابع حديثه عن «الغرفة» قائلاً: «زمان الغرفة التجارية كانت بتتكلم بلساننا ومكانش يجرؤ حد إنه يصنع حذاء بجودة رديئة، وكان هناك مواصفات لكل جزمة، وكان بياخدوا من أى ورشة حذاء عشوائى ويشوفوه مطابق ولا لأ كنوع من الرقابة، واللى كان مخالف يتعمل له قضية، وأنا أطالب برجوع الغرفة التجارية لدورها السابق، لأن محدش حاسس بوجودها دلوقتى وإحنا منعرفش عنها حاجة».
صاحب ورشة: «بعت الفسبة ودهب مراتى علشان أجوز العيال.. والتاجر بيرجع الأحذية لو محدش اشتراها»
صمت عم «عرابى» قليلاً ثم استكمل حديثه بنبرة يملأها الأسى وصوت يغلفه الحزن: «فى يوم من الأيام الورشة دى كانت مليانة صنايعية إنما دلوقتى بقيت قاعد بطولى، ومبقتش عارف أجيب صنايعى واحد، لأنى مش هلاقى فلوس عشان أديله، وهو على الأقل عايز 20 جنيه أقل حاجة عشان المصروف كل يوم، لكن أنا عن نفسى بقول أوفر الـ20 جنيه وأصرفهم على البيت، لأن هو كمان مش هتكفى معاه العشرين جنيه دول وهيحتاج أكتر، وأنا عايز أشغله بس التاجر مش مشغلنى»، موضحاً أن العمارة يوجد بها أكثر من 60 ورشة، لا يختلفون عن وضعه كثيراً، وأن أى شخص يصل إلى سنه يحتاج إلى الراحة، لكن «الراحة دى هتيجى منين وانا ورايا التزامات للبيت والإيجار والكهرباء، شوفوا أقل إيصال كهرباء كام دلوقتى، ووسط الغلاء ده كله هجيب صنايعى منين، ده كان زمان تلاقى العيال الصغيرة اللى جاية تتعلم مالية الورش وكانوا كتير، لكن النهارده متلاقيش خالص».
وبدأ عم «عرابى» فى سرد مواقف كثيرة تتعلق بأسرته بعد تدهور أوضاع المهنة فقال: «كان معايا فسبة والصنايعية كانت مشيت خلاص وشغال لوحدى، وجه عيل من عيالى كان داخل على جواز رُحت بايع الفسبة لأنى كنت محتاج فلوسها جداً، وكنت جايب دهب لأم أحمد مراتى رُحت بايعه هو كمان، لأنى مبقتش زى الأول والدنيا زنقت معايا، وفى أوقات كتير كان كل همى إن بنت من البنات تتستر على حساب الشغل».
وتابع: «السنوات الست الماضية كانت بداية النهاية لصناعة الأحذية، حاسس إنى خلاص ممكن أبيع الورشة فى أى وقت أو أقفل خالص، لأنى ساعتها مش هبقى قادر أستمر مع الأسعار دى، إحنا بنموت بالبطىء كأنك قاعد بتخنق فى واحد لحد ما يموت، وهو ده اللى إحنا بقينا فيه دلوقتى».
ورئيس شركة: سعر الجلد الطبيعى مرتفع جداً وغير متوافر بسبب تصديره للخارج وتحديداً إيطاليا وإسبانيا وبلغاريا
أحمد عباس، 70 عاماً، صاحب ورشة لصناعة الأحذية فى منطقة باب الشعرية، ويجاور عم «عرابى» التقط منه أطراف الحديث قائلاً إنه يعمل فى هذه المهنة منذ نحو 50 عاماً، ويعانى من قلة الإنتاج مقارنة بالسنوات الماضية وارتفاع أسعار المستلزمات بشكل غير طبيعى، ويعمل داخل ورشته مع ابنه الذى تعلم منه صناعة الحذاء، مؤكداً أن: «الأسعار زادت تدريجياً من بعد الثورة تقريباً، و(الكُلّة) كانت أسعارها دايماً ترتفع وتنزل تانى، لكن دلوقتى بقت ترتفع ومتنزلش ودى بالنسبة لنا ظاهرة غريبة وعلى كل أنواعها، النهارده الكيلو منها وصل لـ50 جنيهاً، بعد ما كان بـ15 جنيهاً من 6 سنين، والضربة الجامدة بقى لينا بتكون مع ارتفاع الدولار، لأن متر الجلد الصناعى كان يتراوح بين 14 و18 جنيهاً، لكن سعره حالياً يبدأ من 55 جنيهاً، والمسامير التى يتم شد الحذاء بها أصبح «الباكو» منها بـ15 جنيهاً حيث ارتفع 8 جنيهات.
واستكمل «عباس» حديثه قائلاً: «بقينا كلنا بنغلى على بعض غصب عنا عشان كل واحد يحط المكسب بتاعه وكله بيجى فى الآخر على دماغ المواطن البسيط، وده بالنسبة لى ضرر لأن كل ما المنتج سعره يعلى الكمية اللى هنتجها هتبقى أقل، لأن المواطن نفسه مطحون».
وعن ردود فعل التجار عند رفع الأسعار بهذا الشكل يقول: «كل ما أروح أقول لحد من بتوع مستلزمات الصناعة، يقول لى إنت مش عايش ومش شايف الدولار بقى بكام، والدولار بقى الشماعة اللى بيستخدمها التجار عشان يرفعوا من ثمن المستلزمات، وده اسمه جشع ومصالح ليهم».
ويضيف أنه يُعانى من غياب الصنايعية ونقص الأيدى العاملة فوفقاً لحديثه: «الأيدى العاملة فى مهنتنا انقرضت وبقت قليلة جداً، حتى اللى يدخل دلوقتى مبتعرفش تتكلم معاه، ده كان الأول فيه احترام من الصبيان للكبير، لكن دلوقتى ممكن يسيبك ويمشى وهو بيكلمك، والإيد دلوقتى مبقتش بتصقف بقت بتلطم، ومبقتش عارف تلاقيها من غياب الصنايعية ولا غلاء الأسعار ولا التاجر اللى عايز يمص دمنا، وبقى كله بيصطاد من كله، وبقينا بنضطر ننزّل من حق الحاجة والبضاعة عشان الشغل يمشى».
ويوضح «الرجل السبعينى» أن صاحب محل بيع الأحذية حالياً يقوم برد البضاعة التى لا تلقى إقبالاً فى السوق إلى الورشة، مضيفاً: «التاجر بقى بيرجع الأحذية لو محدش اشتراها ولو ليا فلوس عنده لسه مخدتهاش خلاص مش هاخدها، ولو حد جالى بعدها وممكن ياخدها بأقل من سعرها بيبعها بخسارة»، منوهاً بأنهم كانوا يصدرون الأحذية إلى دول كثيرة منها اليمن وروسيا، وأن مصر كانت أفضل دولة فى الشرق الأوسط فى تصنيع الأحذية.
وفى منطقة الدرب الأحمر، أكد «صالح سليم»، صاحب ورشة لصناعة الأحذية أنه كان يعتمد على صناعة الأحذية من الجلد الطبيعى بشكل أساسى طوال السنوات الماضية، وكان سعر الحذاء لتجار الجملة نحو 80 جنيهاً ويُباع للمستهلكين بـ100 جنيه وتضاعفت الأسعار فى الفترة الماضية، ولكنه منذ نحو 6 أشهر أجبر على تغيير الخامات التى يستخدمها فى إنتاج الأحذية، واتجه إلى صناعة الأحذية من الجلد الصناعى سواء كان مستورداً أو صناعة محلية، مضيفاً بنبرة حزينة: «اتجهت للجلد الصناعى جنب الطبيعى علشان أشتغل وآكل عيش، ولو مكنتش اشتغلت فى الصناعى كان زمانى قفلت وقعدت فى البيت، أسعار الجلد كلها ارتفعت بشكل غير طبيعى».
وتابع «صالح»: «أى جزمة دلوقتى بتتكلف عليا 150 جنيه، طيب ولما تتكلف كدة هتروح للجملة بكام وبعد كده تتباع بكام، ومين أصلاً هياخدها منى بالسعر ده، ربنا يسترها علينا وعلى أصحاب المدابغ اللى هيا كمان بتتقفل، لأن المدابغ الكبيرة اللى بتصدر الجلود هى بس اللى شغالة وهتستمر، لكن المدابغ اللى زى حالتنا كده ظروفهم صعبة»، مشيراً إلى أن هذه الصناعة تتجه نحو أصحاب رأس المال، وأنهم فقط من يستطيعون البقاء وسط الصعوبات الضخمة مع التحكم فى السوق لأن لديهم مصانعهم وسلاسلهم التجارية التى يعرضون من خلالها منتجاتهم، مؤكداً أن «المحلات اللى ليها اسمها بتحط السعر اللى هى عايزاه، لكن لو أنا طلعت منتج بنفس السعر محدش هياخده منى، وهياخدوا الجزم منهم هما عشان اسمهم، واحنا كأصحاب الورش سواء الصغيرة أو المتوسطة مظلومين وسط كل ده، وفيه ناس كتير شغالة فى المجال ده قفلت وغيرت مجالها بسبب الأعباء المادية».
ويقول محمد وصفى، رئيس الشركة العربية للصناعة والتجارة، إن سعر الجلد الطبيعى حالياً مرتفع للغاية وغير متوفر لأنه يتم تصديره إلى الخارج فى مراحله الأولية، بدلاً من اتجاهه إلى المصانع والاستفادة منه فى السوق المحلية مع تصديره للخارج بعد إنتاجه، ولكن المدابغ لا تستطيع تشطيب الجلد بالشكل الجيد وتصدره فى مرحلته الأولية إلى الخارج وتحديداً إسبانيا وإيطاليا وبلغاريا، وأنه يتم تنظيفه وتصفيته من الملوثات فى مصر، ثم يستكمل تشطيبه فى الخارج، مضيفاً: «بصراحة أصحاب المدابغ والعاملين فيها ملهمش ذنب قوى فى الموضوع ده، لأنهم موجودين فى مكان غير صحى ولا يسمح لهم بالتطوير وبيمروا بمرحلة عدم توازن وخرج منهم ناس كتيرة من المهنة ومشاكلهم فى الفترة الأخيرة مؤثرة علينا بشكل كبير لأنهم بيستسهلوا ويصدروا الجلد، ومفيش تطور فى الجلد».