الجمعية الفلسفية المصرية.. «خارج نطاق الخدمة»!

لا أحد يعرف كم جمعية (من تلك الجمعيات التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية) فى مصر.. فكل من هب ودب يؤسس جمعية، ما دام هناك ثلاثة أشخاص أحدهم رئيس والثانى مسئول مالى والثالث سكرتير عام!

أما ماذا تفعل هذه الجمعية فلا نعرف على وجه الخصوص.. لكن ما أعلمه يقيناً أننى كنت أسمع عن هذه الجمعية الفلسفية المصرية بين وقت وآخر، وما أذكره أن صديقى كان يعرف أننى من خريجى قسم الفلسفة السياسية من جامعة السوربون فى باريس، وكنت أشارك القسم بعض الأنشطة الاجتماعية والبحثية التى يقوم بها، فاقترح علىّ أن نبحث عن مكان هذه الجمعية وأن ننضم إليها، فأخذت ابنى الذى يهوى المناهج العلمية والتفكير -وهو طالب جامعى- وقلت فى نفسى: لعله يجد ضالته المنشودة ويتعلم من أساتذة كبار يسبقونه فى المجال. وكانت المفاجأة أن الجمعية الفلسفية توجد فى عقار قديم نسبياً لأساتذة الجامعة ولا يحضر منهم أحد، والإشراف منوط بنفر منهم ممن يعيشون سن المعاش للتسلية لا أكثر.

واللافت للنظر أن الجمعية ارتبطت بأحد أساتذة الفلسفة الأفذاذ بحيث يكون «هو» الأساس فى كل شىء! فهو الذى ينتقد، وهو الذى يوافق على أن يتحدث هذا الأستاذ أو لا يتحدث، وعندما يتكلم هذا الأستاذ يختفى من بين الحاضرين كما جاء!

كانت الجمعية، كما بدا لى، قديمة لا يحضرها سوى عشرة أشخاص لا أكثر، بما فى ذلك موظفو الجمعية وبعض الأساتذة من كبار السن، أما أثاثها فكان قديماً نسبياً، وإذا سألت عنها فى مكان مجاور لها فلا أحد يعرفها وكأنها نكرة، ويبدو أن إمكانياتها المادية صفر، وربما أقل من ذلك، وعندما سألت عن المطبوعة أو المجلة التى تصدرها علمت أنها فى بعض الأحيان تصدر، وتدور حول الأستاذ الجامعى الفذ الذى يحرص على حضور اجتماعات الجمعية، وقد تصدر هذه المطبوعة كل عدة أشهر ولا يراها إلا نفر ضئيل من المترددين على الجمعية.

وكان لافتاً للنظر غياب الشباب، سواء من الباحثين أو أساتذة الجامعة الشبان. وأقول الحق، لقد شعر ابنى الطالب الجامعى باغتراب شديد لأنه وجد نفسه شاباً بين مجموعة من العواجيز!

أقول الحق، لقد تجاوزت كل هذه الأشياء وطلبت من أساتذة الجامعة المشرفين على الجمعية أن أكون ضمن المتحدثين، فكان رد أحدهم مستهجناً: مالك أنت ومال هذه الجمعية؟

فقلت محتداً: إننى أحمل درجة دكتوراه الفلسفة وهذا حقى.. فسكت الأستاذ ولم يحر جواباً، ثم علمت أنه لا يحمل درجة دكتوراه الفلسفة وإنما جاء لتضييع الوقت والتسلية كما قلت، وربما ليثبط همم الزوار أمثالنا، وضاع مطلبى ولم أحصل على موافقة بالحديث لأننى، على ما يبدو، قصدت شخصاً لا ناقة له ولا جمل فى إدارة الجمعية، وعلمتُ أن الحديث يجب أن يكون مع أستاذ الفلسفة إياه الذى بحثت عنه فلم أجده، ثم تبين لى أن الجمعية «اسم ولا مسمى» وأن الذى يتحكم فيها أستاذ الفلسفة إياه الذى يرتبط وجوده بالشخص الذى يقود الكرسى المتحرك الذى يجلس عليه، فهو الذى يأتى به فى الوقت الذى يريد، وهو الذى يقود الكرسى هارباً بعد انتهاء اجتماعات الجمعية دون أن يعلن عن ذلك!!

وهكذا وجدتنى مع أساتذة آخرين يتبخرون فى حضرة أستاذ الفلسفة إياه، وعلمت أن أحد وزراء الأوقاف السابقين، وهو الدكتور حمدى زقزوق، قد التفت لهذه الجمعية لأنه من خريجى قسم الفلسفة الإسلامية فى ألمانيا، فقد أنعم عليها بالمكان والأثاث القديم وتركها لأحد أساتذة الفلسفة يفعل بها ما يشاء على النحو الذى وجدته.

ونسى هؤلاء أن هناك جمعية فلسفية بالجزائر تتطلع إلى الجمعية الفلسفية المصرية، وأخرى فى لبنان.. والأجدى أن يتم التواصل بينها جميعاً، لكن السياسة دخلت فى كل شىء فأفسدت أمور الثقافة والفلسفة، وأصبحت كل جمعية تعمل بمفردها ولا تتكلم إلا عن قضايا خاصة بها، فلا يتحدثون فى مصر مثلاً إلا عن أمور فلسفية مصرية وكفى!! وكذلك الحال فى الجزائر ولبنان.

كنت أود أن نخرج بالأنشطة خارج نطاق المصرية، كما كنت أود أن تتحرر الجمعية الفلسفية المصرية من ربقة أستاذ الفلسفة إياه، فمصر مليئة بالكفاءات الفلسفية فى كليات الآداب، لكن الأساتذة والطلبة «ودن من طين وأخرى من عجين»!

وما زلت مقتنعاً أن أزمتنا ثقافية بالأساس، ومنوط بهذه الجمعية أن تُرسى دعائم فكر ثقافى وفلسفى جديد.. لكن أن تظل منطفئة لهذا الحد لا يعرف عنها أحد إلا من جاءوا لتضييع الوقت والتسلية!

يا قوم، مصر غنية بكل شىء، فقط نريد أن نعمل، وأن تصبح الجمعيات مراكز تفريخ تحض على التفكير الأمثل وليس مجرد جمعيات تسبح فى سبات نوم عميق.

الجمعية الفلسفية المصرية تمثّل مئات الأساتذة وآلاف الطلبة والباحثين، وأن تسبّح بحمد أحد الأساتذة، والباقون «زى الهم على القلب»! وتضيع وقتها فيما لا طائل من ورائه!

هذه الجمعية فى حاجة إلى تدخُّل سريع من وزراة التعليم العالى، وإلى خطوة جريئة من الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، الذى تتبع له هذه الجمعية قبل أن تندثر وتُصبح أثراً بعد عين!!