إشكاليات ما بعد تحرير الموصل

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

«العبادى» أعلن تحرير الموصل 10 يوليو، لكن سيطرة «داعش» عليها انتهت فعلياً قبلها بـ18 يوماً، بتفجير جامع النورى، الذى ظهر على منبره أبوبكر البغدادى لأول مرة منذ ثلاث سنوات، باعتباره خليفة «الدولة الإسلامية»، معارك التحرير لم تتوقف فى تكريت والرمادى والفلوجة، لكن الموصل الأكبر والأهم، لأنها رمز لدولة «التنظيم».. ما تبقى قليل؛ تلعفر «60 كم شمال غرب الموصل»، الحويجة «غرب كركوك»، وأخيراً غرب الأنبار والشريط الحدودى المحاذى لسوريا «القائم، راوة، وعانة».

أمريكا تقنن تقسيم العراق، وقعت بروتوكول الاتفاق العسكرى مع إقليم كردستان، قدمت بمقتضاه الدعم لقوات البيشمرجة، ونسقت فى عملية تحرير الموصل، الأكراد استثمروا وجود «داعش»، للحصول على الدعم، ما مكنهم من تحرير مساحات كبيرة من الأراضى، اعتبروها ضمن أراضى الإقليم الخاضع لهم، مستغلين ضعف السلطة المركزية.. «البرزانى» أعلن استقلال كردستان يونيو 2016، وحدد 25 سبتمبر موعداً للاستفتاء، غادر لبروكسل طالباً دعم البرلمان الأوروبى، ورئيس حكومة الإقليم لتركيا، لإثناء «أردوغان» عن دعوته لوقف الاستفتاء، والالتزام بوحدة أراضى العراق.

واشنطن توصلت لتسوية مع «الحشد الشعبى» وافقت بمقتضاها على مشاركته فى معارك القوس الممتد من الشرقاط جنوب الموصل حتى حمام العليل غربها، دون دخول الموصل، مقابل التغاضى عن القوات التركية فى بعشيقة شمال شرق المدينة، اتصالاتها بدأت عقب إقرار البرلمان لقانون اعتبر «الحشد» أحد مكونات قوى الأمن الداخلى، أخضعه للقانون العسكرى، وأتبعه للقائد العام للقوات المسلحة.. مقاتلوه يتجاوزون 60.000، شارك منهم بمعركة الموصل 35.000، ما يجعله قوة مؤثرة، قادرة على توسيع الدور السياسى للقوى والأحزاب الشيعية التى يمثلها.

تحرير الموصل بقدر ما يعكسه من بشارة، بقدر ما يحمله من مخاطر تفجير صراعات طائفية وخلافات عرقية تقترن بأهداف انفصالية.. تحالف القوى العراقية دعا لمؤتمر وطنى للقوى السنُّية 15 يوليو، برعاية سليم الجبورى، رئيس البرلمان، لبحث الترتيبات السياسية المتعلقة بإدارة الأقاليم التى تحررت من «داعش»، وفتح ملف المعارضة السُّنية، وتأسيس مرجعية سياسية سنية بدعم خليجى تركى، لمواجهة المرجعية الشيعية التى تدعمها إيران، تنظيم المؤتمر اعتمد وجود قاعتين تربطهما دائرة تليفزيونية؛ الأولى ببغداد، والثانية بأربيل، بحيث تضم الأخيرة الأقطاب المطلوبين للقضاء، لاتهامات تتعلق بالفساد «رافع العيساوى، وزير المالية السابق، أثيل النجيفى، محافظ الموصل السابق..»، أو لشكوك تتعلق بدعم الإرهاب «خميس الخنجر، رجل الأعمال..».. «السعودية والإمارات» تحفظتا على تصدر قيادات إخوانية للمؤتمر «الجبورى، الخنجر..»، و«العبادى» لم يبد ارتياحاً، فحدد 15 يوليو موعداً للعرض العسكرى احتفالاً بتحرير الموصل، إدارة المؤتمر أجلته لـ17 يوليو، فثارت حملة مضادة لتوافقه مع ذكرى ثورة البعث، وخالد الملا، رئيس جماعة علماء العراق، وصفه بالمحاولة لـ«تلميع الوجوه القبيحة» لسياسيين حرضوا على الطائفية، ووصفوا إرهابيى «داعش» بـ«الثوار».. الظروف اجتمعت لتأجيل عقده.

نورى المالكى، نائب الرئيس، دفع النواب والشخصيات المقربة للتحالف الوطنى الشيعى، ومن يعرفون بـ«سنة المالكى» لعقد مؤتمر «نحو دولة مواطنة لا دولة مكوّنات» 13 يوليو، برئاسة «المشهدانى»، رئيس البرلمان الأسبق، الذى طرح مشروعاً لاستيعاب المعارضة المتطرفة داخل النظام «جيش الطريقة النقشبندية، هيئة علماء المسلمين، الجيش الإسلامى، وجيش المجاهدين والراشدين»!!، وذلك من خلال «مؤسسة المصالحة الوطنية»، المؤتمر سادته الخلافات، بسبب ما تسرب عن دعم إيرانى، ومشاركة عدد من النواب الشيعة، وغياب الرموز السنية، ما دعا خمسة من شيوخ عشائر حزام بغداد ونينوى والأنبار للانسحاب.

التحالف الوطنى الشيعى يسعى لطرح ملف التسوية السياسية، بعد تحذيرات أطلقتها أطراف داخلية وخارجية من خطورة مرحلة ما بعد تحرير الموصل، فى غياب توافق وطنى على طبيعة إدارة المناطق المحررة، وفى ظل التعددية السياسية والقومية والطائفية، والتدخل الخارجى والدعم الإقليمى لأطراف الصراع المذهبى من الأحزاب الشيعية والسنية.. ضعف السلطة المركزية، والخيانات التى انتهت باحتلال «داعش» ثلث العراق، أسقط هيبتها وأفقدها ثقة الطوائف، انحيازها للشيعة «زاد الطين بلَّة».. العراق لا مستقبل له فى ظل مذهبية وطائفية تغذيها دول الجوار، وتوظفها كجزء من صراعاتها البينية، بغض النظر عن مصلحته، ووحدة أراضيه.

■■■

«ذوبان الإرهاب» واحد من أخطر الإشكاليات التى يواجهها العراق، الخبراء الأمريكيون نصحوا بحصار المدن واستنزاف الإرهابيين داخلها، وحذروا من أن اقتحامها السريع سينشرهم فى كل مكان، ليصبح التتبع الأمنى مستحيلاً، «داعش» احتلت الموصل، وهزمت أربع فرق عسكرية ببضعة مئات من المسلحين، مزودين بالأسلحة الخفيفة!!، سرعان ما ارتفع عددهم لقرابة 7000 نتيجة لعمليات التجنيد، والمصاهرة مع السكان، وقدوم أعداد من المتطوعين الأجانب، عندما اقتحمت القوات المدينة لم توقع أسرى، ولم تعثر سوى على بعض جثث متناثرة لانتحاريين، تقارير المخابرات العراقية أكدت انسحاب المقاتلين قبل بدء المعركة، تاركين قرابة 300 انتحارى للقتال «حتى الموت»، نفس التكتيك الذى اتبعته فى كل المناطق المحررة، ما يثير التساؤل عن مصير الدواعش؟!.. الأجانب بالطبع سيستهدفون مناطق أخرى، كدول الساحل وغرب أفريقيا «نيجيريا، الكاميرون، تشاد، النيجر، ومالى»، بينما يلجأ العرب المحليون إلى الحواضن الشعبية التى استقبلت التنظيم، ودفعته للنمو، والآن تساعده على الاختفاء، الحواضن تنشأ نتيجة التعرض للتمييز والظلم والسخط على النظام وفقدان الأمل.. إلخ، ما يفسر أسباب سيطرة «داعش» على الرمادى والموصل وصلاح الدين والفلوجة والمدن والمحافظات السنيَّة العراقية، بينما عجزت عن الاقتراب من كربلاء والنجف والكاظميَّة، وكذا سيطرتها بسهولة على حمص وحماة وحلب والرقة ودرعا، وأحياء من دمشق، بينما استعصت عليها اللاذقية والساحل، والمفارقة الطريفة أن «داعش» تطارد الحلاقين بداية احتلالها، وتلجأ إليهم كطوق نجاة لعناصرها بعد الهزيمة، التنظيم تحول من عدو عسكرى إلى تهديد أمنى، ونشاط الخلايا النائمة بين السكان لا يقل خطورة عن احتلال الأراضى، فهل تستطيع أجهزة الأمن مواجهته؟!.

التدمير لحق بـ60% من أحياء الموصل، و80% من بنيتها الأساسية، تحتاج 11 مليار دولار لإعادة إعمارها، من إجمالى 100 مليار لمشروع الإعمار الشامل، وهو عبء كبير على دولة مدينة بـ110 مليارات، وتلك إشكالية كبرى تضاف للإشكاليات السياسية العديدة، فهل ستتضامن الدولة، وتغض البصر عن المذاهب والأعراق لمواجهتها، أم ستستثمرها لتحقيق تطلعات نهايتها التقسيم والصراع؟!.

أخيراً.. العراق مطالب بإيجاد صيغة للمصالحة مع العشائر، بعضهم انضم لـ«داعش»، والآخر انقسم ما بين مؤيدين ومعارضين، تجربة بعث فكرة الخلافة، بكل ما صاحبها من تجاوزات، دغدغت المشاعر، ووفرت للسلفيين مادة خصبة للبناء عليها، وتفريخ دواعش جدد ولو بمسميات أخرى.. التصدى للفكر السلفى أصبح ضرورة حتمية، تجربة انطلقت من العراق، لكن الرسالة موجهة لقلب مصر.