رغم أن المحكمة البريطانية أسدلت الستار على قضية رحيل «سعاد حسنى» مؤكدة انتحارها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، فإننا طوال هذه الأعوام ونحن نعانى من انفتاح شهية النمامين ومسارعة الفضوليين إلى دس أنوفهم، وتبارى الأدعياء وفاقدى الموهبة فى الاستبطان والتفسير والاستنتاج، وتحول الجميع إلى محققين وقضاة ومحامين. وتحولت السندريلا إلى مادة مثيرة يتسابق ذوأ الجلود السميكة والمشاعر الغليظة إلى وليمة أكل لحمها الميت.
إن الذين يتدافعون بالمناكب فى المواكب الجنائزية يرتدون النظارات الشمسية والأقنعة، ويتخذون الأوضاع المناسبة للتصوير، ويجهشون فى بكاء شفيف يمزق نياط القلب، ويتنافسون فى سباق محموم فى سرد مناقب الفقيدة الغالية ومآثرها فى أحاديث صحفية وتليفزيونية حزينة مبللة بدموع الحسرة والالتياع، ويبادرون بادعاء اتخاذ مواقف عنترية بعضهم اتهم المسئولين بالجحود لعدم رعايتهم «أخت القمر» ولاموا الحكومة على تقصيرها فى حق علاجها.. لاكوا بألسنتهم تفاصيل لأيامها البائسة فى مدينة الضباب وحينما تسألهم وأين كانت أياديكم أنتم الكريمة.. فماذا يقولون؟!
إنهم يستنكرون استفزازك السخيف ويؤكدون حرصهم السابق على الاتصال بها فى بلاد الغربة دون جدوى.. وماذا يملكون إزاء هروبها المستمر من اللقاء وتعمدها تغيير رقم هاتفها.. وأى معاناة رهيبة تلك التى بذلوها فى محاولتهم الوصول إليها ولا مجيب.. ذلك فى الوقت الذى كانت تعانى فيه من حصار ومطاردة التائبات عن الفن وإصرارهن على دفعها بكل الإلحاحات الممكنة إلى الاعتزال وإعلان التوبة والاعتراف بأن الفن حرام وارتداء الحجاب.. وهو ما رفضته بشدة.. وبادرت وقتها بتأكيد أنها تؤمن بالله، وتؤمن بأن الفن هو وسيلة من وسائل هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم.. أما البعض من محترفى البحث عن دور فقد اتهموا المضيفة صديقتها نادية يسرى بالقتل مع سبق الإصرار والترصد بهدف سرقة كنز المجوهرات المخبوء لفنانة هم أنفسهم يعترفون بإفلاسها.. فلفرط سذاجتها أعطت لفنها كل نبضها ولم يكن لديها وقت للتجارة والاستثمار.. اتهموا المضيفة مع أنهم يدركون جيداً أن اكتئاب الشريدة الضائعة فى براثن الوحدة والغربة والتجاهل والإفلاس والمرض هو القاتل الحقيقى، وأن الجحود والنكران والخيانة هم المجرمون الذين يسيرون فى جنازة الضحية.. أما فيما يتصل بواقعة الانتحار فإنهم يستنكرونها أيضاً.. كما تستنكرها أسرتها بدافع من واقع دينى يحرم قتل النفس التى خلقها الله سبحانه وتعالى.. ويغفلون أنه تم تحت تأثير مرض الاكتئاب اللعين الذى يصبح فيه المريض غير مسئول عن فعلته التى أوصله إليها أصحاب القلوب الغليظة والضمائر المتحجرة.
إن حجم المعاناة التى عاشتها «سعاد» فى عاصمة الضباب كانت قاسية إلى درجة من الصعب احتمالها، وشائعة أنها كانت خلال تلك الفترة فى حالة غير طبيعية تذكرنا بمعاناة «مى زيادة» أثناء وجودها فى مستشفى العصفورية للأمراض النفسية فى لبنان، فرغم أن الجميع يعرفون أنها دخلت المستشفى عنوة بمؤامرة من ابن عمها وأنها فى كامل قواها العقلية فإنهم تخلوا عنها.. بل صدقوا.. أو ضحكوا على أنفسهم وصدقوا أنها فقدت عقلها ليريحوا ضمائرهم المثقلة بالإحساس بالذنب تجاهها ومحاولة الكثيرين تأكيد شائعات من نوعية مطاردة الموساد لها أو تآمر نادية يسرى هى محاولات يمكن أن نسميها ألعاباً نفسية أو حيلاً دفاعية تبعد عن القتلة الحقيقيين شبهة اغتيال سعاد بالإهمال والتجاهل والجحود..
لقد ماتت سعاد حسنى منتحرة، وعلى حد تعبير د.جلال أمين «لأننا لا نستحقها».
أما تجار الفن فقد قتلوها مرة أخرى فى مسلسل «السندريلا» الذى تبرأت منه حيث تم تشويهه تشويهاً كاملاً فتحول إلى مسلسل تجارى ردىء دمر بناؤه الدرامى ليصبح مجرد حكايات مبتذلة عن شائعات رخيصة وزيجات متلاحقة لبطلة هشة تتقاذفها الأنواء، أسيرة رغباتها الملحة الوقتية، لا إرادة لها ولا قيمة، تحيط بها رموز فنية من ورق جسدت بطريقة هزلية كاريكاتيرية، ففرغ العمل من مضمونه الاجتماعى والإنسانى والفكرى والسياسى، ومن مظاهر ذلك التشويه أجد من المناسب الآن أن أنشر بعض المشاهد التى لم تصور والتى تؤكد فكرة الانتحار:
■ مشهد لسعاد واقفة على كوبرى «ووترلو» ممسكة بالمحمول تصرخ فى انهيار «مخاطبة الفنان حسين فهمى» عاوز تكرمنى يا حسين فى المهرجان؟! تكرم مين؟! تكرم واحدة وزنها زاد على (100) كيلو وأصبحت غير مسئولة عن تصرفاتها؟!.. هتكرمنى إزاى وأنا بالحالة دى.. شكلى هيبقى مسخرة وحأعركم.. حأعر أصحاب الياقات المنشية والبدل الإسموكن، والبابيونات والفوريرات فى حفلات الافتتاح والختام، والريسبشن والبوفيهات المفتوحة.. أنا مش مستنية التكريم الرسمى.. التكريم الحقيقى أخدته من الناس.. جمهورى من البسطاء اللى حبنى وحبيته.. احتضنى وحطنى جوه عينيه وعمل منى قصة إنسانية، وملحمة شجن، وموال مصرى..
■ مشهد بشقة «نادية يسرى»..
سعاد ممسكة بسماعة التليفون تهتف منهارة وهى تبكى وتنتحب «مخاطبة زوجها السيناريست ماهر عواد» بينما نادية يسرى تنظر إليها فى إشفاق: لا يا ماهر.. اوعى تضغط علىّ انت كمان.. دول عاوزينى أرجع قبل الميعاد عشان يتفرجوا علىّ.. وبعدين ينكرونى علشان يتسلوا بالنميمة ويعملونى فزورة.. ويشاوروا علىّ ويقولوا حذر فزر هى دى «السندريلا» ولا لأ؟!.. واللى يعرفنى يكسب جايزة واللى مايعرفنيش يدوا له فرصة تانية.. والفرجة ببلاش.
«ثم مستدركة فى أسى والدموع تنهمر من عينيها»: أنا مش عاوزة رجوعى يبقى سفر من غربة لغربة.. من إهمال لإهمال.. ما يبقاش رجوعى اعتذار عن وجودى.. انت فاهمنى؟! مفيش حد غيرك يقدر يفهمنى دلوقتى.. لو فهمتنى حتنقذنى من نفسى، حتخلينى مأغيرش الرحلة.. مأغيرش تذكرة السفر.. الحقنى يا ماهر قبل ما أغير تذكرة السفر.
تسقط منها سماعة التليفون، تصيح منهارة مواجهة نادية يسرى وكأنها تحادث نفسها/تحاكمها: الظاهر إنى غلطت يا نادية.. اديت كل حياتى ومشاعرى ونبضى وفنى للناس.. ضحيت بكل استقرار.. خسرت مشروع بيت.. وضل راجل.. وغريزة أم.. طفل يصالحنى على الحياة بعد ما الأضواء تنطفئ والتجاعيد تفرض وجودها.. مالقيتش فى كل محطة وقفت فيها غير جحود ونكران وظلم وقهر وخيانة ووجيعة.. نخاس حاول يبيعنى فى سوق النخاسة زمان باسم حماية الوطن وسلامته.. ونخاسين حاولوا يبيعونى أبيض واسود وبالألوان سلعة فى سوق الإنتاج والتوزيع.. نخاسين حاولوا يبيعونى فى صفقات صحفية ويقبضوا لمعان وشهرة ورضا زائف.. ونخاس حاول يبيعنى بعقد جواز شرعى وفرخة بتبيض دهب.. وفى الآخر خالص لما الغربة بقت قدرى «السندريلا».. زوزو.. محدش افتكرنى.. زارونى وطبطبوا علىّ.. ومسحوا دمعتى فى الريبورتاجات بس.. كانوا متأكدين إنى مش حاكذّبهم.
ثم وهى ترنو ناظرة إلى صورة «صلاح جاهين» المعلقة تهتف معاتبة فى انهيار والدموع تملأ وجهها.. فى تشوش تخاطبه كأنه شاخص أمامها: عاجبك كده يا صلاح؟!.. سبتنى وسافرت علشان أشحت سرسوب حب.. ونظرة حنان.. ولمسة عطف.. أعمل إيه؟!
ثم بانفعال متصاعد.. بجماع مشاعرها فى لقطة قريبة لوجهها.. رُدّ علىّ.. قوّينى.. احمينى.. اسندنى.. متسيبنيش لوحدى.. متسيبنيش لوحدى..
تلقى بنفسها فى أحضان «نادية يسرى» المنهارة هى الأخرى تشاركها البكاء.. وتربُت عليها.. تحتويها بين ذراعيها فى لقطة قريبة تجمعهما.