المريض النفسى بين قسوة المرض وجهل الدراما
الطب النفسى فى مصر هو ساحة مستباحة لكل أنواع الدجل والوهم والفتوى والتشويه خاصة فى الدراما، فلم يتم تشويه تخصص طبى فى الكون كما شُوِّه الطب النفسى والطبيب النفسى والمريض النفسى فى مصر المحروسة، فالطبيب النفسى رجل مجنون حتى يثبت العكس، أشعث الشعر، مرتعش العينين، قصير البنطلون، زائغ النظرات، يدخن البايب 24 ساعة، ينصح مريضه بمسك البندول وتكرار وترديد «أنا مش قصير قزعة أنا طويل واهبل»!! أما المريض النفسى فحدث ولا حرج، هو كوكتيل من فرانكشتين ودراكولا وعبيط القرية وخط الصعيد!، وعندما شاهدت مسلسل «حكاية حياة» لم أعرف فى البداية هل نحن أمام مصحة نفسية أم بيت دعارة أم سجن الباستيل! وقلت: الله يكون فى عون المرضى النفسيين والأطباء النفسيين الذين يشاهدون مثل هذه الدراما المشوِّهة لألف باء علم الطب النفسى، وقد استفز الكثيرون من الأطباء النفسيين من هذا الطرح الساذج والتناول العبيط للطب النفسى، ومن ضمن هؤلاء أ. د. طارق أسعد أستاذ الطب النفسى بطب عين شمس الذى علق قائلاً: «شاهدت الحلقة الثانية من مسلسل (حكاية حياة) مدفوعاً من بعض أصدقائى ومرضاى، حيث إنها تعرضت للعلاج الكهربى وطريقة التعامل مع المرضى فى المصحات النفسية، وأعترف أننى دافعت فى البداية قبل أن أشاهد الحلقة عن أن الفن له رؤيته وليس المفروض أن يعرض حقائق علمية وإنما يخضع ذلك للحبكة الدرامية وما إلى ذلك، ولكننى بعد أن شاهدت الحلقة أصابنى «الاشمئزاز» و«الاستفزاز» فى نفس الوقت وأخذت أتساءل: أيُعقل بعد كل هذا التقدم فى العالم كله مازال أهل الفن عندنا متأخرون إلى هذه الدرجة؟ وقفز إلى ذهنى ورشة عمل حضرتها فى الاجتماع السنوى الأخير للجمعية الأمريكية للطب النفسى عن الطب النفسى والإعلام وتعرض فيها الحاضرون لمناقشة فيلم «آثار جانبية» Side Effects، ودفعنى الفضول لمشاهدة الفيلم، وعلى الرغم من أنه يتعرض لإحدى الممارسات الخاطئة للأطباء النفسيين، إلا أننى، وأنا طبيب نفسى، كدت أن أصدق أن من يقومون بالتمثيل أطباء حقيقيون من فرط الدقة والحرفية!
الحقيقة أنا لا أتكلم هنا عن الصورة السلبية والسيئة التى أظهرها المسلسل عن طبيعة العلاج فى المصحات النفسية والممارسات الشاذة للأطباء والممرضين، فكل هذا من الممكن قبوله بدعوى أن الفن من حقه أن يبرز السلبيات ولكل مهنة سلبياتها، ولكننى أتكلم عن الفن الذى من المفروض أن يحترم عقل المشاهد، فإذا كان مقبولاً فى الأفلام القديمة أن يظهر الطبيب وهو يقوم بقياس النبض أو الضغط بطريقة مضحكة أو أن يستخدم ألفاظاً علمية ما أنزل الله بها من سلطان، فبالله عليكم: أيمكن قبول ذلك فى الألفية الثالثة؟! من أفتى للقائمين على هذا العمل بأن جلسات العلاج الكهربى تعطى بهذه الطريقة البلهاء وأنها تُستخدم هكذا لعقاب المرضى المشاغبين؟! وكيف هو الحال لمن يعالَج ابنه أو أخوه بمثل هذا العلاج وهو يشاهد هذا المسلسل؟! إن العلاج الكهربى يا سادة علاج فعال وآمن إلى حد كبير لمرضى الاكتئاب والاضطرابات الوجدانية والذهانية غير المستجيبين للعلاج الدوائى، ونظراً لما قد تسببه كلمة «كهربى» من سوء فهم لدى البعض فالمصطلح الشائع حالياً -حسب اقتراح أ. د. أحمد عكاشة- هو «علاج تنظيم إيقاع المخ».
لو أن الأمر بيدى لقدمت القائمين على هذا العمل للمحاكمة بتهمة «الإهانة والاستخفاف بعقل المشاهد العربى»، أما المرضى النفسيون فلهم الله هو القادر أن يعينهم وذويهم على تحمل قسوة المرض وجهل القائمين على الفن، ويا أيها الفن كم من الجرائم ترتكب باسمك!».