أصوات القصف منعت أسرة "غزال" الفلسطينية من سماع "مدفع رمضان".. وألعاب أطفالهم مطاردات بين"عرب ويهود"
أصوات القصف منعت أسرة "غزال" الفلسطينية من سماع "مدفع رمضان".. وألعاب أطفالهم مطاردات بين"عرب ويهود"
القصف المتواصل على قطاع غزة، وأصوات القنابل والصواريخ الإسرائيلية، طيلة السنوات الماضية، منعت أسرة "غزال" من سماع صوت مدفع الإفطار، بل فلم يهتم بعض من جيرانهم، فأفطروا قبل أن يحل موعد أذان المغرب، حيث استبدلت آذانهم صوت مدفع الإفطار بأصوات طلقات الرصاص وقصف الصواريخ.
"عاطف غزال"، بجلبابه الأبيض، ووجهه الشاحب، وجسده الذي أرهقه المرض، يتذكر بامتعاض، الاحتفال بموكب "مدفع الإفطار"، في غزة، وحين كان يختبئ خلف جلباب أبوه، خوفا من أصوات المسيرة الاحتفالية، التي كانت تطوف شوارع غزة، وسط تهليلات وتكبيرات بقدوم الشهر الكريم، ملتفين حول "مدفع رمضان"، الذي أخرجه العامل القائم عليه، ونظفه ليكون جاهزا، لوضعه بـ"متنزه البلدية"، المخصص له طوال أيام رمضان، وحتى قرر الاحتلال الإسرائيلي منع أهل غزة من ذلك التقليد، لشعور جنودهم بالخوف من صوته، ظنا منهم أنه أحد صواريخ حركات المقاومة.[FirstQuote]
وفي أحد بنايات شارع فصيل بالجيزة، تقطن عائل "غزال"، التي ارتحلت إلى القاهرة واحدا تلو الآخر، تاركين القطاع المحاصر، سواء للعلاج أو الدراسة، ورغم ذلك مازالت قلوبهم متعلقة بحلم العودة للأرض والأهل، فميرفت غزال، الأستاذة بمعهد البحوث والدراسات العربية، والتي جاءت للقاهرة عام 1992 لتكمل دراستها بالجامعة، ولم تتخل بغتة عن التقاليد والعادات الفلسطينية، ولم ترهقها الغربة، فالقاهرة على حد قولها، تقترب كثيرا من عادات أهل فلسطين.
"ميرفت" التي تعيش إلى جوار والدتها الحاجة "نهال"، ووالدها المريض عاطف غزال، تقول لـ"الوطن": "في أوقات الاستقرار، حين تثبت رؤية هلال شهر رمضان تعم الفرحة بالشوارع والتي تعج بالمواطنين الفارحين والمتوجين للأسواق، وتبدأ الجوامع بالتكبير، وتبدأ انتشار أغاني الترحيب بالشهر الكريم".[SecondImage]
بعينين متسعتين، وقد توردت وجنتيها، تتذكر "ميرفت غزال" حينما كانت تتسارع خطوات إلى نافذة منزل خالتها، بالقدس، المطل على إحدى بوابات المسجد الأقصى، لترنو لاحتشاد عدد من الشباب مختلفي الأعمار، والمعرفين بفرقة "فادعوس" حاملين المصابح والمباخر، ويدلفون إلى داخل بيوت بالأحياء المحيطة بالمسجد الأقصى، ينشدون الأغاني والأهازيج، مرددين الأدعية لكل مولود جديد ومريض يسعى للشفاء، ويجمعون أموال والزكاة من أهل القدس، لتوزيعها على الأسر الفقيرة.
وهنا تمتلئ الأسواق بأهل غزة فور الإعلان عن هلال رمضان، وتؤكد ميرفت: "أن الأسواق الفلسطينية في رمضان يكون لها طابع مختلف، فتزدهر المحال، وتمتلئ بالمواد واحتياجات الشعب الفلسطيني في رمضان، حتى أوقات الحصار، فيكون كل شيء متوفرا وبشكل كبير، وحينها تسمع صوت عاطف غزال المتهدج يترحم على الرئيس جمال عبدالناصر، متذكرا حيث خلت الأسواق من بعض المواد الغذائية قبل رمضان، فأمر حاكم القطاع غزة، المُعين من قِبل الرئيس الراحل، بأن تحمل العربات والناقلات الكبرى بالمواد الغذائية الكافية لأطعام أهل غزة.[SecondQuote]
وتقول ميرفت غزال: "المائدة الرمضانية في فلسطين، لابد أن تلتزم بوجود نوع من أنواع الحلوى، وبخاصة (الكنافة النبلسية)، والتي تقوم الأم بتحضيرها من اليوم الأول لرمضان، وتتشكل من طبقات كنافة، وطبقات من الجبن"، مشيرة إلى حرص العائلات على الالتفاف حول مائدة واحدة في اليوم الأول، مهما كانت الظروف، وتقول: "في السحور هناك طبق مهم وهو (صحن الحمص) فهو بالنسبة للفلسطينيين أهم طبق على المائدة، رغم أنه يعتبر من المقبلات، ويحضر بحطن فص توم وشوية فلفل حامي، ويخلص بحمص الشام المصلوق، ويضاف إليه الطحينة والملح".[ThirdImage]
أطباق الحمص وأكواب الخروب، أهم العناصر الرمضانية على المائدة الفلسطينية، وإعداد السحور الفلسطيني يقوم على "الجبن والفول"، بشكل أساسي علاوة على أكلات لها خصوصية كـ"زبدية السلطة"، وتعد من خلال السلطة المخلوطة بالبندارة والمطحونة، بمضروبة بالخلاط، وعليها إقبال كبير رغم أنها من المقبلات، بجانب الأكلات الشامية المعتادة كالكبابة وورق العنب، والتبولة وأما المقلوبة فهي أيضا من الأطباق الرئيسية، حسب قول "ميرفت"، وهنا تقاطع الحاجة "نهلة" ميرفت لتذكرها بـ"المسخن".. وهو عبارة عن "رقاق" يشرب وزيت الزيتون، ويحشى بطبقات من الفراخ المخلية من العظام، ويتبل بالبصل ويقلب بزيت الزيتون على النار، ويوضع عليه نوع من أنواع المكسرات.
الاحتلال والقصف والصراع الفلسطيني، يخلق في الأطفال طاقة إبداع حتى في ألعابهم الرمضانية، هكذا تصف ميرفت طقوس الأطفال في رمضان قائلة "طبيعة الحياة في غزة، وقائمة على المطاردات، متقمصين هويات عربية ويهودية، في لعبة تسمى (عرب ويهود)، حاملين الأخشاب كأسلحة، وجربات النظارات كمتفرجات للحركات المقاومة، ويلتف حول رقابهم الشال الفلسطيني، والبعض الآخر تكون نجمة داود مرسومة على جباههم.
وتصف الحاجة نهال حال الفلسطينيين حين يحل رمضان في فصل الشتاء، ويتزامن مع استمرار القصف، فتقطع الكهرباء، والغاز أحيانا، وتستخدم العائلات، آلات بدائية في الحياة اليومية، فيقاد الحطب لتحضير الطعام، ويعاد استخدامه لتدفئة المنزل، وإنارته، وتتشت العقول بين صوت الرعد وصوت مدافع القصف، وصوت مدفع رمضان.
وتقول نهال: "الفلسطينيون الهم وحدهم، وجلعهم أقرب لبعضهم من أي شعب آخر، والفلسطيني يشعر بجاره، ويلتزم التزوار مهما كانت الصعاب، والعطف على الفقير من أهم تقاليد رمضان، لذلك تكاد تخلو غزة من موائد الرحمن، فالاحتلال والقصف المستمر بات جزءا من مكونات الحياة عندنا، ورغم كل الظروف يظل التكافل الاجتماعي والتزوار وصلاة الأحرام لا تقطع في أشد الظروف".
وتتذكر الحاجة نهال بينما يؤذن المغرب، وتبدأ الأسر في الإفطار، حتى تسمع الصرخات، على أحد أبناء الجيران، الذي وصل للحي مدرجا في دمائه، أو الهروع إلى المسجد المقابل للمنزل حين انفجرت قنبلة بالقرب منه للمشاركة في مساعدة المسعفين، ونقل الجرحى، وجثامين الموتى، ورغم كل ذلك تلتف النساء بعد الإفطار حول قراءة القرآن أو المداحين في ذكر آل الييت، والموالد والاحتفاء بالنساء المتجهين لمكة، لأداء فريضة العمرة في رمضان.
ميرفت تقول: "إن شاطئ البحر يكون ملاذا لكثير من العائلات حين انقطاع النور، في رمضان لتقوم بالإفطار على الشاطئ في موائد كبر على الإضاءة الربانية، في تجمعات يتفرشون فيها الأراضي".
فيما أكدت الحاجة نهال، والدة ميرفت، أن صلاة التراويح لم تقطع من غزة يوما ما رغم، وحين حلت حرب العراق وهدد صدام حسين بضرب تل أبيب، فرض الاحتلال حظر التجوال، في جميع أنحاء غزة، وتغلبت ميرفت وبنات عماتها والعائلات في كل أنحاء عزة، على الحظر، فباتوا يركدون في الأبيار الخاصة بالحدائق التي تحيط بالمدينة الصغيرة، حتى تجتمع كل الأسر في أحد الأحياء، وأغلقت أبواب الحارات، وووقفت ميرفت ووالدتها نهال بجانب النساء ترمق من بعيد قوات الاحتلال، وتتراقب وصول دوريات العدو، وإذا اقتربت تقوم النساء بعمل إشارات لتنبية المصلين الذي أصروا على أداء صلاة التراويح، داخل الغرقة المتسعة في بعض المنازل الكبرى، غير مكترثين بأي ضرر قد يحلق بهم.