الكنيسة المصرية والإسلام

حلمى النمنم

حلمى النمنم

كاتب صحفي

أوصى نبى الإسلام، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- صحابته، ومن ثم عموم المسلمين فى كل مكان، خيراً بأهل مصر عموماً، وأقباطها خصوصاً، ولم تأت هذه الوصية النبوية من فراغ، جاء فى الحديث النبوى أن لأهل مصر «رحماً ونسباً»، وقال الشراح إن المقصود هنا السيدة هاجر -أم العرب جميعاً- والدة سيدنا إسماعيل وزوجة أبوالأنبياء إبراهيم -عليه السلام- هى كانت مصرية من «الفرما»، مكانها الآن مدينة بورسعيد تقريباً، هذه السيدة المصرية تُعد فى التاريخ «أم العرب» جميعاً، وقصتها مع وليدها إسماعيل، وتفجُّر الماء بين يديها فى «بئر زمزم» معروفة للدارسين ولعموم المسلمين، هذه البئر تمثل الماء الطاهر والمبارك، الذى يحرص الحجاج والمعتمرون وعموم المسلمين على التبرك، ولو بشرب كوب منه، ويجلبون منه ماء هدية للأقارب وللمحبين.

غير السيدة هاجر، هناك كذلك السيدة «مارية القبطية»، التى أنجبت لرسول الله ولده «إبراهيم»، الذى مات طفلاً، وحزن عليه الرسول حزناً شديداً، قائلاً «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا يا إبراهيم لفراقك لمحزونون».

لعبت «مارية القبطية» دوراً غير منكور فى حياة الرسول، تحدثت كتب السيرة عنه، وحاول عدد من الباحثين والمؤرخين التوقف عندها فى مجال الحديث عن زوجات النبى، كما تحدّث عنها من أرّخوا لفتح مصر.

دور أمنا هاجر فى التاريخ يحسم مسألة عروبة المصريين، وأنه لا يوجد صراع بين انتمائنا لمصر القديمة والعروبة، فلا تضاد بينهما، إن أحسنّا فهم تاريخنا العظيم وكذلك إذا أدركنا أن العروبة لا تلغى ما قبلها من تاريخ وحضارة، بل تعمق بها، ومن أسف أن بعض المؤرخين قصروا تاريخ مصر القديمة على جانب من قصة فرعون موسى، وتجاهلوا كل مراحل ذلك التاريخ والحضارة العظيمة التى صنعها قدماء المصريين، التى نباهى بها إلى يومنا هذا، وإلى آخر الزمان.

أما قصة السيدة «مارية القبطية»، ابنة إحدى قرى محافظة المنيا، ودورها فى حياة الرسول، منذ أن بعثها المقوقس إلى رسول الله، فإنها تعكس الموقف الودى للمسيحية المصرية وللأقباط تجاه الإسلام منذ ظهوره، وتجاه نبى الإسلام.

والواقع أن هناك حقاً تاريخياً للكنيسة والمسيحية المصرية على المسلمين عامة، ومن باب أولى مسلمى مصر، ففى بداية الدعوة الإسلامية، تعرّض المسلمون الأوائل لمضايقات بالغة من أهل مكة، وصلت إلى حد السجن والتعذيب ومنع الطعام عن بعضهم لأيام، بالطبع كان السجن والتعذيب من نصيب الفقراء والمهمشين اجتماعياً، وكان معظم الذين آمنوا بالإسلام من الضعفاء والفقراء، وقليلهم كانوا من الأغنياء وذوى الحسب، وهؤلاء كانوا بمنأى عن الحبس أو التجويع، وهنا نصح رسول الله المسلمين الفقراء والمضطهدين بسبب إيمانهم وعقيدتهم أن يهاجروا إلى الحبشة، فإن لديها ملك «لا يُظلم عنده أحد»، كانت الحبشة تعتنق الديانة المسيحية، وتحديداً الأرثوذكسية المصرية، وكانت -وقتها- تتبع لكنيستنا المصرية، وهكذا كان البطريرك المصرى وبابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، هو الذى يقوم بترسيم كاهن إثيوبيا، ومن ثم فإن المسيحية المصرية فى الحبشة لم تجد غضاضة فى استقبال المسلمين الأوائل ومنحهم الأمان وتوفير سُبل العيش الكريم لهم، والأهم من ذلك ممارسة شعائر دينهم الجديد، بكل محبة وتسامح، وهذا يعنى ضمنياً الاعتراف بذلك الدين والترحيب به، ولم يكن توفير الأمان لهم من باب الرفاهية أو الكرم فقط، ولا من باب الفضول للتعرف على دين جديد، بل اعتُبر واجباً، ولذا حين سعى سادات قريش إلى استعادة هؤلاء «المارقين»، لم يتم لهم ذلك.

كل هذه الوقائع والحقائق التاريخية كامنة فى الوعى المصرى العام، لدى المسلمين والأقباط جميعاً، وليست بحاجة إلى أن نذكرهم بها، جينات المصريين ثقافياً ودينياً تسمح وتقبل بالتعدد والتنوع، بل إن التعدد لدينا ضرورة حياة وشرط وجودى، خاصة فى المجال الدينى، منذ مصر القديمة، وليس رطانة سياسية وثقافية، نتشدق بها أوقات الأزمات، هى حقيقة داخلنا وفى حياتنا، ومن يراجع تراثنا الشعبى، من أمثلة نرددها وعادات نمارسها، يتأكد من ذلك، وهذا أمر نعيش به وعليه، يدركه المصريون جميعاً، إلا من ضلّ عن مصريته وعن روح الإسلام السمحة من جماعات الإرهابيين الذين تشربوا دعوة حسن البنا وأفكار سيد قطب وأبوالأعلى المودودى فى إزاحة أى مختلف ورفض التنوع، أولئك الذين تصوروا الحياة قالباً عقائدياً جامداً أو مصمتاً.

هؤلاء الذين خرجوا علينا بالأحزمة الناسفة والمتفجرات من أتباع حسن البنا وقطب، لم يروا فى شرع الله سوى انتهاك الآخرين، وهدم كنائسهم، وما هى فى النهاية سوى بيوت من بيوت الله -سبحانه وتعالى- الذى علمنا فى القرآن الكريم أنه لو شاء لجعلنا أمه واحدة، أى بلا تنوع ولا تعدد، ولو أرادنا على دين واحد لأرسل نبياً واحداً، لكنه سبحانه أرادنا شعوباً لنتعارف، وأرادنا مسلمين ومسيحيين لنتسامح ونتحاب ويتقبل بعضنا بعضاً، ويحب كل منا الآخر، ويتسامح كل منا مع الآخر، ويصفو جميعنا لمعانى الإنسانية النبيلة، هؤلاء القتلة.. الإرهابيون.. ليسوا منا ولسنا منهم.

كل هذه المعانى وغيرها، يمكن أن نستشفها لدى سيدنا رسول الله، حين أطلق نداءه، وإن شئنا الدقة، التكليف والأوامر لصحابته وأنصاره، أن يستوصوا بالأقباط خيراً، والوصية ملزمة، ومن هنا فإن كل الجرائم التى تُرتكب فى حق المواطنين المصريين والأقباط وفى حق الكنائس المصرية، هى خرق لتلك الوصية وجهل بحقائق تاريخية ثابتة، ومن ثم يجب أن توضع هذه الجرائم فى سياقها الصحيح، وهى أنها جرائم يقوم بها إرهابيون، جرائم وإن استهدفت الأقباط والكانئس، فإن المستهدف النهائى هو روح مصر والمصريين جميعاً، لكن مصر محروسة دائماً بعناية الله ويقظة أبنائها وتحضر شعبها.