السيسى وترامب.. مبادئ أم مصالح!

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

ثنائية المبادئ أم المصالح واحدة من أشهر الثنائيات فى العلاقات بين الدول، وهى ثنائية تنطلى على البعض، ولكنها أيضاً مفضوحة وبلا معنى بالنسبة للكثيرين، خاصة الذين ذاقوا مرارة السياسات الكبرى المليئة بشعارات كاذبة فارغة المعنى والمضمون، وأثمان فادحة تحملتها شعوب الأرض جميعاً ونلنا نحن العرب والمسلمين منها الكثير من الضغوط والكثير من الخسائر، ولذا فمن الطبيعى أن تجد بعض الدوائر الإعلامية والسياسية والبحثية تحاول إقناعنا بأن بلادنا تفتقر إلى الحريات كـ«الواشنطن بوست» وأمثالها، وبالتالى لا نستحق سوى اللوم والاستنكار، وأن حقوق الإنسان فى مصر باتت متدهورة كتقرير «هيومن رايتس ووتش» المنشور عشية زيارة السيسى إلى واشنطن، التى لا تَمل من نشر تقارير مشوهة وأحادية النظرة وغير موثقة عن الأحوال المصرية، وأن الشعب المصرى فى حال بؤس نظراً لأنه يقبل الانصياع إلى حكم عسكرى أو شبه عسكرى كبوست وبروكينجز وأمثالهما.

ويمتد قول هؤلاء وأشباههم إلى انتقاد الدول الأوروبية وغيرها التى باتت تنظر إلى الواقع المصرى نظرة واقعية تستند إلى أن هناك حراكاً تنموياً وسياسياً تشارك فيه المؤسسات الرسمية والمدنية، يهدف إلى تحسين ظروف المصريين قدر الاستطاعة وبتدرج، جنباً إلى جنب قيام الأجهزة المعنية بمواجهة التطرف والإرهاب فكرياً وأمنياً وتنموياً، ومن ثم وهذا هو الأهم إعلاء الحق فى الحياة والحق فى الأمن والأمان لعموم المصريين، وهما الحقان اللذان بدونهما لن يكون هناك إنسان فى الأصل لكى ندافع عن باقى حقوقه السياسية والاجتماعية التى تتسع باتساع الحياة نفسها.

ولذا لم يكن غريباً والرئيس السيسى يذهب إلى واشنطن لملاقاة الرئيس ترامب فى خطوة تؤكد القطيعة لميراث سابقه أوباما مع مصر، وبدء صفحة جديدة بين القاهرة كعاصمة رئيسية وذات ثقل مشهود فى الإقليم ككل، بعربه وعجمه معاً، وبين واشنطن وبيتها الأبيض الذى يرأسه ترامب المقبل من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية الكلاسيكية والمُحمل بنظرة واقعية للغاية للحياة وللتفاعلات بين الدول والكيانات المختلفة، أن تخرج بعض وسائل الإعلام الأمريكية وبعض مؤسسات بحثية شهيرة بنشر مقالات رأى وبحوث مصغرة عن الأوضاع المصرية، وتصب جميعها فى نتيجة واحدة وهى الحكم القائم فى مصر أبعد ما يكون عن حماية المواطنين وحقوقهم المختلفة، وبالتالى فهم ينصحون الرئيس ترامب بأن يعاقب الرئيس السيسى لا أن يفتح له أبواب الدعم والمساندة، ولكى يكون لكلامهم معنى يتباكون على التحول الخطير الذى أصاب بلادهم حسب رؤيتهم المخادعة، وينتهون إلى أن أمريكا وهى حامية حمى المبادئ والأخلاق قد فقدت مصداقيتها طالما أنها تنظر إلى مصر مثل هذه النظرة الواقعية ذات المنحى الإيجابى إجمالاً.

جزء من دوافع ناقدى ومهاجمى زيارة السيسى للبيت الأبيض مرتبط أساساً بالصراع القائم بين الرئيس ترامب وكبرى المؤسسات الإعلامية التى سعت بكل قوة لإسقاطه فى الانتخابات الرئاسية ومناصرة هيلارى كلينتون، ولكنها خُذلت خذلاناً عظيماً، وهى تعمل الآن على الإسراع بتوريط ترامب فى مشكلات قانونية وسياسية تنهى رئاسته بأسرع ما يمكن، وجزء آخر من الدوافع مرهون بالعلاقات الوثيقة بين هذه الدوائر وبين لوبى الجماعة الشريرة والمناصرين لها، وجزء ثالث مُؤسس على قناعات زائفة وعنصرية واستعلائية بأن بلادنا عليها أن تكون دائماً حقل تجارب لساساتهم وأفكارهم الخاصة بمصالحهم، كالشرق الأوسط الجديد والنظام الدولى الجديد والفوضى الخلاقة والخلافة الإسلامية، التى تقودها جماعات ترفع شعارات دينية وتمارس العنف ولكنها تحظى بدعم أمريكى، ويطلق عليها الجماعات الإسلامية المعتدلة على خلاف الواقع الذى نعيشه ونراه فى سيناء وسوريا والعراق.

هؤلاء الناقدون الذين يرفعون بهتاناً وزوراً الدفاع عن القيم والمثل والمبادئ ينكرون علينا حق الدفاع عن أنفسنا وهويتنا، كما يتعجبون بل لا يقبلون أن تكون لنا رؤية تختلف عن رؤيتهم فى العديد من الأمور، وأهمها كيف نصنع نموذجاً سياسياً ديمقراطياً يعكس مصريتنا بكل ما فيها من تنوعات، وكيف نصوغ رؤية تتعلق بحقوق الإنسان بمنظور شامل يجمع بين حقوق السياسة وحرية الرأى ويسبقه الحق فى الحياة والأمن والبيئة والسكن والتعليم الجيد وفرصة العمل، وكل ما هو موجود بالفعل فى الوثائق الدولية بحقوق الإنسان.

الرؤية الشاملة لحقوق الإنسان تأخذ فى اعتبارها الظروف الاستثنائية التى تمر بها الدولة فى مواجهة العنف والإرهاب من جماعات تدعى إعلاء الدين، والموارد المتاحة والتراكمات السابقة وهكذا، بيد أن الأمر عند هؤلاء الناقدين قاصر وحسب على الحريات باعتبارها كافية فى حد ذاتها، وليذهب الحق فى الحياة والأمن إلى الجحيم.

أتصور أن السيسى قبل أن يذهب إلى الولايات المتحدة كان عالماً بالخريطة السياسية والإعلامية فى الولايات المتحدة، بما فى ذلك لوبيات الكونجرس وتنوعاتها المختلفة، وعالماً أيضاً بأن الرئيس ترامب يواجه ضغوطاً شديدة حتى من أجهزة فى عمق الدولة الأمريكية وليس فقط وسائل إعلام ذات نفوذ هائل ووراءها جماعات مصالح من أحزاب ورجال كونجرس ورؤساء شركات عملاقة، ومُدركاً أن أسئلة الإعلاميين الأمريكيين لن تخلو من سخافات واستفزازات، وأن كثيراً منها سوف يتجاهل أى نقطة إيجابية حدثت فى العاميْن والنصف الأخيرين، وسيكون هناك تركيز على مشكلة هنا أو خطأ هناك، الأمر الذى يستدعى منا أن تكون توقعاتنا واقعية بقدر الإمكان، فمهما كانت هناك نقاط اتفاق مع إدارة الرئيس ترامب من حيث المبدأ كمواجهة الإرهاب وعدم تغيير النظم بالقوة المسلحة وعبر وكلاء محليين ومرتزقة «كما هو حادث بالفعل فى سوريا»، وأهمية الدور الذى تقوم به مصر فى شئون الإقليم وقضايا المختلفة، فهناك عدد كبير من القضايا محل خلاف أو لنقل لم يتحدد بعد، كالقضية الفلسطينية بكل تفريعاتها بما فى ذلك القرار الأمريكى المعلق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل أى تسوية سياسية شاملة، وكيف نواجه الأنشطة الإيرانية المقلقة لمصالحنا المصرية والعربية، وكيف نعالج أزمات سوريا وليبيا واليمن، وهى جميعاً قضايا تمس مصالحنا فى العمق فى المدى المتوسط والطويل معاً، ولم تصل إلى مرحلة التشكل الكامل لدى الرئيس ترامب ومعاونيه، وبالتالى فهى محل نقاش مفتوح وقد يأخذ وقتاً، أو بعبارة أخرى لن تشهد اختراقات كبرى فى هذه الزيارة تحديداً، وربما فى زيارة أخرى بعد عدة أشهر تتبلور فيها الرؤية الأمريكية على نحو مناسب. وفى النهاية نحن أمام عملية نقاش بدأت أولى خطواتها والبقية فى الطريق.