المواطنون درجات وكذلك الفساد

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

هذه النقاشات والسجالات، بما فيها التى تجرى وقائعها بين الأصدقاء أو فيما بين الغرباء، حيث سائق التاكسى واعظاً أمام الراكب، أو السباك مؤنباً صاحب التواليت المكسور، أو حتى المدرس الخصوصى متجاذباً أطراف الحديث مع الأب ذى الجيب المنكوب، أو الموظف المطحون شاكياً همه للمواطن المنحوس، خير دليل على أن أغلبيتنا المطلقة لا تنظر إلى المرآة. وإن فعلت فهى لا تمعن النظر، وإن أمعنت فهى تطفئ النور. النور الذى يضىء أحياناً فى الأدمغة فيوضح الحقائق مهما كانت مؤلمة ويجلى الوقائع بغض النظر مهما كانت صادمة. كم مرة تسمع فى اليوم أحدهم مولولاً لأن الكبار نهبوا البلد، أو أن نظاماً سابقاً سرق خزائن الوطن، أو أن وزراء فروا من العقاب بعد ما ابتلعوا خيرات البلاد، إلى آخر بنود الولولة المعتادة؟ وكم مرة صدّع سائق التاكسى رأسك بحكايات بعضها من نشرة الأخبار والبعض الآخر من نسج الخيال، مضافاً إليها تحابيش القيل والقال عن التريليونات المصرية المنهوبة، وسبائك الذهب المسروقة، وخزائن الماس وشجر الأناناس ومحتويات محلات «دماس» التى سافرت بها زوجات شخصيات مهمة وجاءت بها عائلات رجال أعمال ممنوعة؟! وبالطبع تجد نفسك مضطراً عن احتياج أو ممتناً عن اقتناع لأن تهز رأسك إيجاباً وتعلق تعليقات تنم عن موافقة ومواءمة. لكن حين تنظر إلى العداد، تجده مصفراً حيث الصفر الأحمر لا يتتعتع أو يتحرك. تسأله عن السبب، فتمتعض ملامح وجهه ويرد عليك بنبرة لوم متأرجحة بين إفك وكذب وادعاء بأن «أصل العداد عطلان ومش معايا فلوس أصلحه» أو بجاحة وصفاقة وفظاظة بأن «الأسعار زادت والدنيا ولعت وإشمعنى أنا إللى هامشى صح؟!».

السائق الذى يشكو الفساد ويبكى نهب البلاد لا يفرق كثيراً عن الكبار النهابين السراقين، إذ يكمن الفرق فيما تتيحه الأقدار لكل منهم من موارد قابلة للسرقة والنهب، ومن نهب سائق التاكسى لحق الراكب فى دفع ما يمليه العداد، إلى نهب السباك لحق صاحب التواليت المكسور أو الصنبور المشجوج أو أنبوب المياه المخروم فى أن يحصل على حقه فى إصلاح يوازى ما دفعه من رسوم انتقال وقيمة كشف ومقابل ترميم، لكن ما يحدث غالباً هو أن السباك -بينما يخرب ما لم يكن مخروباً ويلصم ما كان مكسوراً- يلقى عليك خطبة عصماء عن البلد ذات الحال المقلوب وأصحاب الضمائر المنعدمة من كبار الموظفين الناهبين للبلاد أو صغارهم من المطلعين عين العباد لإنجاز مصلحة أو إمضاء ورقة، حيث سياسة الدرج المفتوح أو الوش المقلوب لحين تقديم ورقة بخمسين أو مائة أو مضاعفاتهما، ويكلل الحديث بدعاء العلى السميع أن يهدى أولئك المارقين أو يأخذهم أخذ عزيز مقتدر لأنهم لا يخشون الله أو يخافون يوم الحساب. وبينما هو يتوضأ حتى يصلى العصر قبل أن يعود إلى محله، تكتشف ما ألحقه من خراب وما أنجزه من دمار فى أثناء عملية الترميم. وقبل أن تمسك به وهو يردد السلام عليكم فى نهاية التشهد، يباغتك بتوتر شديد أن عليه المغادرة لأنه «سايب المحل لوحده من الصبح».

ومن المحل القابع وحده إلى المعلم المسيطر وحده على «الرياضيات» أو «الفيزياء» أو ما تيسر من لغات. ففى نهاية الدرس الخصوصى يتجاذب الـ«ميستر» أطراف الحديث مع الأهل عن البلد الذى ضاع بسبب الجشع وإلغاء الضمير والاستعانة بالحيل للتكسب والتربح دون وجه حق. لكن حق الطلاب والطالبات الذين لا يحظون بشرح أو ينعمون بتفسير لما ورد فى مناهج التعليم، حيث الانشغال بالخصوصى والاندماج مع منظومة الـ«سنتر» متناهية الكبر. قمة الكبر والصلف والغطرسة -وجميعها ملعون فى الأديان ومكروه فى منظومة العيب زمان- هى أن ندعى أن بحر الفساد فى مصر لا يوجد إلا فى قمة الهرم حيث الكبار ورجال الأعمال وأصحاب المناصب ممن تمكنهم وظائفهم أو صفقاتهم أو مصالحهم من وضع أياديهم على ما ليس لهم.

وعلى الرغم من أن النظرية الشعبية الرائجة -إن لم تكن قولاً ففعلاً عملياً على مدار الساعة 24/7- فهى استحلال السرقة «على الضيق» والنصب «على صغير» وضرب عرض الحائط بالقوانين الدنيوية وإغماض العينين والأذنين والقلب والعقل أمام القوانين الربانية فيما يختص بتحليل السرقة والاحتيال. ليس هذا فقط، بل إن الخطاب الدينى الذى لا يتطرق عادة إلى قضايا فساد الصغار يضفى هالة من الشرعية على المنظومة القائمة حالياً والمسجلة فى براءات الاختراع ألا وهى «مد يدك فى جيب إللى جنبك بس سمى الأول». سياسة اليد الممدودة فى جيوب الآخرين باتت أمراً عادياً ومقبولاً مجتمعياً ومستساغاً لدى الغالبية، شأنه فى ذلك شأن القبح الذى اعتدناه حولنا فى البناء والشارع والرصيف والمدرسة والمستشفى والتصرفات والسلوك. لكن غير المقبول أن نضحك على أنفسنا ونقنع ذواتنا بأن العيب فى الآخرين وإننا «فلة الفلل». وهذا وضع مريح، فمن منا لا يستريح نفسياً وينشكح عصبياً ويتخلص فكرياً من أثقال وهموم تعذب ضميره وتؤلم ما تبقى من قيمه وذلك بترحيل المشكلة إلى من هو أقوى منه، أو هم أكبر منه، أو أفسد منه؟ البعض ممن انتهجوا النظريات الثورية المتشددة، أو التفسيرات الدينية السياسية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها يتغاضون تماماً عن فساد الصغار، ويتجاهلون كلية نصب المواطنين المساكين، بل يبررونه ويمنطقونه ويحللونه، رافضين تماماً النظر فى المرآة.. كل الحكاية أن المواطنين درجات، وكذلك الفساد.