السعادة الغائبة

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

فى بحث مهم بالأرقام والإحصاءات بعنوان «لماذا غابت السعادة عن المصريين فى السنوات الماضية» نشر فى جريدة «الصباح» تناولت المحررة فترة أعياد الربيع فى بحثها باعتبارها واحدة من المؤشرات التى يمكن القياس عليها لمعرفة مقدار السعادة.. وعبر استبيان فى أوساط وشرائح اجتماعية مختلفة رصدت أسباب التعاسة التى عمت المجتمع.. وعدم الإحساس بالرضا أو الطمأنينة أو السلام الذى سيطر على الشارع المصرى.. واسترشدت بانخفاض أعداد المحتفلين بشم النسيم العام الماضى (2016).. فالمترددون مثلاً على حديقة الحيوان لم يتجاوز يومها (150) ألف زائر بالقياس إلى الأعوام السابقة.. وبديهى أن هناك سبباً مباشراً لانعدام السعادة مرتبطاً بارتفاع الأسعار وتدنى أجور البسطاء الذين يمثلون الأغلبية حتى صار الخروج للنزهة الزهيدة التكاليف ولو ليوم واحد فى السنة عبئاً ثقيلاً لا يقدرون عليه.. واكتئابهم نتيجة فقدان الأمل فى رفع الظلم الاجتماعى عن كاهلهم رغم قيام ثورتين رفعتا شعار تحقيق العدالة الاجتماعية.. فما زالت الهوة شاسعة بين الطبقات.. ونسبة البطالة تزيد ولا تقل وتطبيق الحد الأدنى للأجور يتعثر.. والحد الأقصى لا يفعَّل.. والعشوائيات تلطخ جبين وطن يزدرى الفقراء.. ويحتقرهم ولا يمن عليهم بأبسط الحقوق ويتركهم يموتون فى مستشفيات بشعة أو يطردهم ويلقى بهم على قارعة الطريق.. أو يصرعون ضحايا قطارات صدئة متهالكة.. كما أن معدلات الجريمة ترتفع.. والعنف يتفاقم ويتربص بالبسطاء.. وما زالت حادثة قتل بائع الشاى برصاص أمين الشرطة بإدارة النجدة إثر مشادة كلامية بينهما، ماثلة فى الأذهان.. تهز الوجدان وتوجع الضمير الإنسانى.. فمن أجل قروش زهيدة امتنع عن دفعها الأمين أطلق النار من سلاحه الميرى على المواطن وأرداه قتيلاً.. وقبلها واقعة مماثلة قتل فيها رجل شرطة سائق توك توك يدعى (دربكة).. وهكذا تحول رجل الحفاظ على القانون إلى مجرم خارج عن القانون.

والمفارقة التى نشرتها الصحف أيضاً فى اليوم التالى لشم النسيم.. تؤكد أنه حتى حيوانات حديقة الحيوان بالفيوم لم تنعم بلحظة سعادة أو سلام أو أمان.. فقد شهد رواد الحديقة حادثاً فريداً عقب نشوب مشاجرة بين إناث (السيد قشطة) الثمانى أثناء وجودها فى المياه بالمكان المخصص لها فى الحديقة.. حيث انقضت سبع منها على الثامنة الحامل (فى موسم التزاوج)، متوسط عمرها من (12 - 13) عاماً ووزنها (2 طن)، وفتكت بها على أثر اشتعال نار الغيرة والحقد عليها لاستئثارها بحب وعطف (السيد قشطة) الذى يتوق شوقاً إلى مولود جديد.

وما إن بدأ العام الحالى 2017 يطل علينا حتى وقعت جريمة «كافيه» النزهة البشعة، والخاصة بمقتل شاب بواسطة عامل بعد مباراة مصر والكاميرون فى نهائى كأس أفريقيا، والتى تعتبر تجسيداً واضحاً لفوضى الشارع الذى سبق أيضاً بفترة قصيرة أن قُتل فيه صاحب محل خمور ذبحاً بفعل متطرف على قارعة الطريق وهو جالس أمام محله.

وجريمة قتل الشاب فى الكافيه لا تتوقف عند مجرد أنها جريمة فردية تمت لأسباب خاصة فالمتتبع لأصداء وتوابع الحادث ومن خلال رصد ما تم ونشرته الصحف على لسان محافظ القاهرة، أن أول ما تم بعد الحادث هو إزالة مخالفات المقاهى بأحياء «مدينة نصر ومصر الجديدة والنزهة»، فى إطار أحكام القانون لمقاهٍ تم إنشاؤها دون الحصول على التراخيص اللازمة من الأحياء التابعة لإدارة النشاط.. بالإضافة إلى تحويلها لوحدات سكنية أو جراجات لأنشطة تجارية بخلاف التعدى على الأرصفة وما تسببه من تلوث بيئى وإزعاج.. فقد واصلت أجهزة الأمن بالقاهرة والجيزة حملات غلق المقاهى المخالفة وفحص العاملين بها بعد أن أغلقت أجهزة الأمن بالقاهرة كافيه «كيف» إثر مقتل الشاب «بيومى»، وفى القاهرة استكملت القوات الحملة الكبرى لإزالة الإشغالات والتعديات والمخالفات وإحكام الرقابة على المحال العامة وفحص العاملين بها على مستوى ميادين وشوارع العاصمة واستكمال إغلاق المقاهى المخالفة. يقول محرر «المصرى اليوم» بتاريخ 9/2/2017م: «ورصدت المصرى اليوم شارع النزهة والشوارع المجاورة له بمصر الجديدة وتبين هدم وإغلاق أكثر من أربعين مقهى جميعها مخالفة».

يا إلهى.. (40) مقهى مخالفاً فى حى واحد من أحياء القاهرة ولم تتحرك الأجهزة لغلقها إلا بعد أن حدثت الكارثة، أين كانت هذه الأجهزة؟! وما المهام التى تمارسها حتى تفاقمت الفوضى وأسفرت عن عنف يعكس مظاهر سلبية خطيرة اجتاحت المجتمع المصرى والتى أصبحت الحاجة إلى دراستها دراسة علمية دقيقة أمراً ملحاً بل مصيرياً.

يميل الدكتور «جلال أمين» فى تفسيره لمظاهر العنف غير المألوفة فى سلوك المصريين التى تشكل تطوراً مخيفاً طرأ على الشخصية المصرية فى السنوات الأخيرة، أو فى أعقاب ثورة يناير مما يشى بأشياء مخيفة أخرى فى المستقبل.. يميل إلى الاعتقاد بأن الأربعين عاماً الماضية وعلى الأخص خلال فترة حكم «حسنى مبارك» بمتاعبها الاقتصادية واستفحال الازدواجية والفوارق الطبقية بين الطبقات مع انتشار تعليم ردىء وإعلام أكثر رداءة فى إفساد العقول وزيادة نار الازدواجية اشتعالاً هو التفسير الطبيعى لتفشى العنف، مضافاً إليها توحش الفقر.. ودعاوى التكفير وانتشار الخرافة والدجل الدينى والغيبيات.. وافتقاد المشروع القومى الذى يلتف حوله المصريون.. وفقدان الأمل فى تحقيق العدالة الاجتماعية.

وفى سياق التأكيد أن «العنف» صفة ذميمة طرأت على المجتمع المصرى والشخصية المصرية وليست أصيلة أو متجذرة فيه يدلل على ذلك فى كتابه «محنة الدنيا والدين» أن السبب الحقيقى لدأب الأجانب على التعبير عن حبهم للشعب المصرى والإقامة فى مصر هو كراهية القسوة والاشمئزاز ممن يمارسها.. ونلاحظ ذلك فى تعليقات المصريين على ما يرونه من مناظر وما يمرون به من أحداث.. وهم كما يشمئزون من القسوة يستغربونها كلما رأوها.. إذ لا تبدو لهم مشاعر العنف مشاعر طبيعية بالمرة.. بل إنه يذهب إلى حد الربط بين كراهية المصريين للعنف وبين ما اشتهروا به من خفة الظل وتقدير النكتة الطريفة، فالشخص القاسى أو العنيف ليس فقط غليظ القلب بل هو أيضاً ثقيل الظل..

وتاريخ النكتة المصرية يشهد على عمق كراهية المصريين للاستعمار بكافة أشكاله على مر التاريخ من خلال النكتة القاسية أو العنيفة أو الجارحة، منها مثلاً اختراع رجل يدعى «كاكا» وسيلة شائنة للقذف والسخرية من «نابليون» أثناء الاحتلال الفرنسى لمصر.. بوضع تمثال كبير من الجبس على هيئة عضو ذكرى ضخم يربطه حول وسطه ويقف فوق عربة كارو ويهزه فى استهزاء وازدراء لنابليون مصحوباً بعبارات تأخذ شكلاً زجلياً تشى بضعف «نابليون» الجنسى.

ذلك بالإضافة إلى دأب المصريين على السخرية من السلطة وشخصيات الرؤساء ومنهم «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» و«حسنى مبارك» و«مرسى» ومن هزيمة (67).

وإذا كنا ندعو مع د. «جلال أمين» إلى نبذ العنف والعودة إلى التأكيد على وسطية الشعب المصرى واعتداله الذى يعتبر أنسب وصف للشخصية المصرية، فأفضل منه أن نقول إن كراهية العنف هى بلا شك من أجمل الصفات طراً.. فمتى نعود إلى أن نتفاخر بها؟.. بلا شك أن تحقيق العدالة الاجتماعية لها دور كبير فى ذلك.