على بك الكبير.. زعيم الاستقلال الذى خطَّط لغزو تركيا

(1) الزعيم المصرى على بك الكبير.. هو أحد كبار النجوم فى تاريخ السياسة المصرية.. بدأ مملوكاً قادماً من خارج البلاد.. وانتهى شيخاً للبلد ثم زعيماً لمصر.. فقام بعملية تحديثٍ واسعةٍ.. وقاد حركة استقلال رائدة.. ثم قام بتمديد نظرية الأمن القومى.. فضمّ الحجاز والشام.. ليصبحَ زعيماً للمنطقة.. وليبدأَ خطةً جادّةً لغزو تركيا.

(2) إنَّ على بك الكبير مثل نابليون بونابرت.. لم يكنْ على بك مصرياً ولم يكن نابليون فرنسياً.. كما لم يكنْ أدولف هتلر ألمانياً ولا الملكة إليزابيث بريطانية ولا القيصرة كاترين الكبرى روسية.. لكنهم جميعاً -وغيرهم- صاروا قادةً أو رموزاً لبلادهم -من أصاب منهم ومن أجرم- ولم يعد للأصلِ أىُّ ذكر فى وصفِ انتمائهم.. أو توصيف هويتِهم ومكانتِهم.

تولّى على بك الكبير الذى وصلتْ مهاراته العسكرية والسياسية إلى أعلى مستوى.. بعد أن تعلّم على يد أستاذه «إبراهيم كتخدا».. منصباً رفيعاً هو «شيخ البلد» أىْ «محافظ القاهرة».. وكان ذلك فى عام 1763.

كان الصراع على السلطة حاداً فى ذلك الوقت.. فتمتْ الإطاحة به من منصبه.. لكنه نجح فى العودة إليه عام 1767.. ثم أصبح حاكماً للبلاد.

لجأَ على بك الكبير إلى ما لجأ إليه قادة مصر العِظام على مرّ التاريخ.. من تقوية الجيش.. وبناء الجبهة الداخلية.. والتطلع إلى فرض نفوذ الدولة المصرية فى محيطها.. الذى يصل إلى جبال طوروس.

كان على بك الكبير زعيماً مثقفاً.. قرأ تاريخ الأبطال المصريين مثل بيبرس والمنصور قلاوون.. وغيرهما.. ثم شرع فى بناء جيشٍ قوى، واعتمد على عددٍ من نخبة العسكريين وقتها مثل محمد بك أبوالذهب وأحمد الجزار ومراد بك وإبراهيم بك.

نجح الجيش فى فرض الأمن الداخلى الذى كان منهاراً.. وأصبحت مصر من أكثر دول العالم أمناً.. وأصبح الاستقرار فيها مضرب الأمثال ومصدر الروايات. ويذكر المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتى فى وصف ذلك: «قضَى على بك الكبير على انعدام الأمن.. فأمِنَت السُّبل، وانهزم أولاد الحرام.. وكان الشخص يسافر بمفرده ليلاً وراكباً دابّته، أو ماشياً.. ومعه الدراهم والدنانير إلى أىّ جهةٍ.. ويبيتُ فى الغيط أو البريّة.. آمناً مطمئناً، لا يرى مكروهاً أبداً».

(3) بالتوازى مع بناء جيش قوى.. قام على بك الكبير بعملية تحديث كبرى.. أصلح قلاع الإسكندرية ودمياط.. وأصلح المساجد وطوّر العمارة المصرية.. وقد تجلّى ذلك فى قِباب ومآذن مسجد السيد البدوى فى طنطا، وقبّة الإمام الشافعى فى القاهرة.. وفى سرايا الأزبكية، ومنشآت كورنيش النيل فى بولاق.. وفى العديد من المعالم الرائعة فى مصر.

لقد شملتْ عملية التحديث المصرية فى عهد الزعيم محمد على الكبير.. تطوير الزراعة وتحسين أحوال الفلاحين.. واستعان فى ذلك بخبراء ومتخصصين. ثم إنَّه كافح الفساد والرشاوى.. وحقَّق انضباطاً كبيراً فى العلاقات الاقتصادية والتجارية وفى تطبيق القانون -رغم مصادرته لأموال خصومِه من المماليك المتمردين- ويقول «الجبرتى» فى مديح الأداء الإدارى للزعيم على بك الكبير: «لم يراعِ فى ذلك أحداً، سواء كان متعمماً أو فقيهاً.. قاضياً أو كاتباً.. أو غير ذلك فى كافة البلاد والقرى».

(4) كان على بك الكبير يمتلك رؤيةً حضاريةً.. وكان يرى الأتراك طغاةً وظالمين.. كما أنهم لا يحقِّقون مبادئ الإسلام فى الحرية والعدالة وتحقيق مصالح الناس.. وعلى ذلك فالأتراك «المستعمرون» ليسوا إلا مجرمين فى حق الشعوب باسم الخلافة ورفع راية الدين.

كما كان يرى سلاطينَهم الذين قتلوا ونهبوا وعاشوا حياة الملوك المترفين.. لا يستحقِّون وصف الخلفاء.. ولا حُماة المسلمين.. ذلك أنهم أدخلوا الأمّة فى حقبةٍ كارثيةٍ من الانهيار الحضارى والفساد السياسى.. ووقف عجلة انطلاق المسلمين نحو حضارة العصر.. وسيادة العقل والعلم.. كما كانوا فى عصور ازدهار الإسلام وسطوة المسلمين.

وعلى ذلك كانت استراتيجية على بك الكبير هى استقلال مصر.. ثم التوسع الإقليمى.. ثم غزو تركيا وإسقاط المؤسسة السلطانيّة الفاسدة.. وإعادة تحديث الأمّة من جديد.

(5) نجح الجيش المصرى فى عهد على بك الكبير فى ضمّ الحجاز واليمن والشام.. وكان يرسل للمدن والبلاد قبل وصول الجيش المصرى يؤكد على أن المصريين جاءوا من أجل الحرية والقضاء على الطغيان العثمانى.

كانت الحجاز من أملاك مصر فى عهد الدولة المملوكية.. وكان سلطان «مصر الكبرى» يسمى «خادم الحرمين الشريفين».. إلى أنْ جاء الغزو العثمانى فى عهد السلطان سليم الأول عام 1517.. فاحتلّ مصر والحجاز وأطلق على نفسه لقب «خادم الحرمين الشريفين».

حين وصل الجيش المصرى إلى المدن المقدسة الثلاث: مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف.. خرج سادتها ترحاباً وحباً بقدوم المصريين والتخلص من العثمانيين.

كانت هزيمة يونيو التركية معركة أساسية فى الحرب المصرية - العثمانية.. حيث هزم الجيش المصرى الجيش التركى هزيمة ساحقة فى 6 يونيو عام 1771. ثم كان قرار على بك الكبير بغزو تركيا.. وإسقاط السلطنة. هنا كانت نهاية هذه الحقبة من التاريخ المجيد.. حيث واجَه الزعيم على بك الكبير انقلاباً قاده محمد بك أبوالذهب قائد جيشه وأقوى جنرالاته.

لقد مضى التاريخ إلى سياقٍ آخر.. ولولا انقلاب «أبوالذهب».. لاحتلت مصر تركيا.. وتمددتْ سيادة القاهرة إلى جبال طوروس. لقد نجحتْ تركيا فى ترتيب الانقلاب، وعرضتْ روسيا أن تدعم الزعيم الوطنى على بك الكبير.. لكنه رفضَ الاستعانة بجيشٍ أجنبى لمحاربة جيش بلاده.

(6) كان على بك الكبير نموذجاً للهندسة السياسية لبلاده.. ولقد خلّد أمير الشعراء أحمد شوقى سيرته المجيدة فى مسرحيته الشهيرة «على بك الكبير أو دولة المماليك».

فى 1773.. انهزم على بك الكبير أمام محمد بك أبوالذهب.. ثم انهزم تلميذاه إبراهيم بك ومراد بك أمام نابليون بونابرت. وبعد قرابة قرنين ونصف القرن.. لا يزال «سبيل على بك الكبير» فى طنطا شاهداً على عصر زعيم الاستقلال.

إن «سبيل على بك الكبير» هو سبيل كل القادة الكبار فى تاريخ بلادنا.. من قبل ومن بعد. ولا تزال تجربة هذا الزعيم الوطنى الكبير.. موضع اهتمام بالغ من كبار المؤرخين.. وموضع تقديرٍ واحترامٍ من الوطنيين المصريين.

■ من كتاب للكاتب بعنوان «الهندسة السياسية» يصدر قريباً.

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر