«الانضباط أسلوب حياة».. مؤقتاً!

قبل نحو 24 ساعة من بدء قراءتك لهذه السطور، أنهت وزارة الداخلية مبادرتها لإعادة الانضباط للشارع المصرى، وهى المبادرة التى اختارت لها عنوان «الانضباط.. أسلوب حياة»، بعد أن اكتفت بتطبيقها لمدة أسبوع واحد فقط، بما يمثل فى النهاية رسالة سلبية لكل مواطن بأن ينضبط فى سلوكياته لمدة 7 أيام فقط طوال أيام السنة، أما بقيتها فتكون له كامل الحرية فى أن «يمشى على حل شعره»..!

فإذا كانت «الداخلية» مؤمنة حقاً بالشعار الذى اختارته لحملتها «وأشك فى ذلك»، فقد كان من الواجب الاستمرار فى تطبيقها على مدى العام إذا كان شىء من الانضباط قد تحقق خلال هذا الأسبوع دون أن تترك العنان لسلوكيات المواطن السلبية على مدى الـ51 أسبوعاً هى بقية العام..! أما إذا لم تكن هناك نتائج إيجابية قد حققتها هذه الحملة فيبدو أن «الوزارة» قد اكتفت بأن تعيد تذكير المواطن بوجودها فى الشارع..!

واقع الحال أننا نعيش فى مجتمع يؤمن بالفعل بحرية المواطن وفق مفهوم مواطنيه الخاص والخاص جداً‏.. فتركت له كامل الحرية فى اختيار «المخالفة» التى تروق له.. ينتقى طبيعتها‏.. يحدد توقيت ارتكابها‏.. فهو حر يعيش فى بلد حر.. لا يخشى شيئاً فهو على يقين بأن أحداً لن يحاسبه على ما يرتكبه من مخالفات، وبخاصة إذا كان من بين المنتسبين لهؤلاء المحظوظين من فئة المسئولين أو المسنودين‏!‏

يفعل ما يشاء وقتما يرغب‏.. لا يعنيه أن هناك قانوناً يحظر ذلك أو عرفاً يستنكره‏.. فكل هذه الأشياء قد وجدت لمن هو دونه‏.. لمن لا يحميه نفوذ أو يتدثر بعباءة المعارف الكبار‏.. أما هو فلا أحد يهزه!!‏

ثقافة غريبة تسودنا‏.. فالبعض يشعر بأنه مميز عن غيره دون أن يمتلك من المؤهلات الحقيقية ما يؤهله لهذا التميز، والذى يدفعه دوماً لاختراق القانون ومخالفة الأعراف‏.. فكل ما يمتلكه منها هو فقط «كارت شخصى» فى محفظته لمسئول‏.. أو رقم تليفون على «موبايله‏».. كما لو كانت هذه الأشياء جواز سفره لارتكاب أى مخالفة دائماً أو حتى جريمة أحياناً‏.‏

الالتزام بقواعد المرور وإشاراته عيب أن نطالبه به‏.. احترام أى نظام لا يجب أن يكون خاضعاً له‏.. حتى طابور سداد الفواتير أو أمام أى «كاشير» فى سوبر ماركت لا يصح الانتظام فيه‏.. فعندما يطالبه أحد بالانتظام سيُسمعه تعبير «انت مش عارف بتتكلم مع مين‏؟»!!‏

أصحاب هذا التميز الوهمى يحلو لهم دوماً استغلال إمكانات الدولة ومرافقها دون أى وجه حق‏.. ويكفى هنا تلك الشوارع التى أحالوها إلى جراج خاص يؤجرونه لـ«قباضايات» كل همهم انتزاع ما فى جيوب كل من ساقه قدره إلى ركن سيارته لبضع دقائق..!

فما يحدث فى شوارع القاهرة والجيزة حتى الآن على الأقل بات أمراً فاق كل التصورات‏، إذ أحكمت مافيا الطريق -إن صح التعبير- سيطرتها وقبضتها على جميع شوارع المدينتين وفرضت إتاوات على كل من تسول له نفسه ركن سيارته فى الشارع‏!!‏

مافيا الطريق أخذت أبعاداً جديدة إلى جانب صورتها التقليدية التى اعتاد عليها قائدو السيارات عندما يفاجأون عند إدارة محرك السيارة بمن يقفز أمامها متظاهراً بمساعدة قائدها فى الخروج من صف الانتظار إلى الطريق العام‏، ليطلب فى النهاية 5 جنيهات نظير مجهوده وعمله الذى لم يبذله أو يؤديه‏!!‏ فإذا اعترض صاحب السيارة ومضى فى طريقه فإن اللعنات التى تودعه تطول أجداده بدءاً من «الملك مينا موحد القطرين» لتصل فى النهاية إلى أحفاده‏!! إذا لم يلحق باسمه تعبير «الله يرحمه» من جانب بلطجية دائماً تنشق الأرض عنهم!‏

الشكل الجديد الذى اكتسبه أعضاء المافيا يتمثل فى تكرار السيناريو بذات مشاهده عدا تعديل طفيف يتمثل فى أن يبرز إمبراطور الشارع دفتراً لا تعلم أى جهة التى يشير إليها الخاتم المطبوع عليه ليطالبك بخمسة أو 10 جنيهات وفق مستوى المنطقة المركونة فيها السيارة، سواء كانت «مولاً تجارياً أو نادياً رياضياً أو غيرها من المؤسسات»‏، وليعلن لك بكل ثقة أن تحصيل هذه الرسوم لصالح إحدى شركات الأمن التى حصلت على امتياز تحويل الشارع العام إلى موقف خاص‏!!‏

السؤال هنا يفرض نفسه‏: من أعطى حق تأجير الشوارع إلى الشركات الخاصة؟ وبأى حق منحته؟ وعلى أى أساس قانونى استندت إليه المحافظة أو المجلس المحلى عند إقرار تأجير الشارع؟

إذا كان هناك سند قانونى لأى جهة عند منحها حق تأجير الشارع العام -وأشك فى أن يكون هناك نص قانونى أو تشريع- فلمَ لا تحدد هذه الجهة بلافتة واضحة تلك المساحة التى يحق للشركة الخاصة فرض إتاوتها على كل صاحب سيارة؟ وقيمة هذه الإتاوة؟ حتى لا يقع المواطن فى كمين هذه المافيا الجديدة‏، ويفاجأ بمن يفرض عليه رسوماً عند دخوله منزله أو شقته الخاصة‏!!

هذا من جانب، ومن جانب أكثر حدة فإن معظم وإن لم يكن جميع الشوارع الرئيسية وأرصفتها قد تحولت إلى «أجنس» سيارات جديدة يمتلكه أحد «المسنودين» ليسد الطريق أمام المارة.. أو مقهى نشر مقاعده فى عرض الطريق أو على الأرصفة.. إضافة إلى عصابات البلطجية التى باتت من ركائز المحلات أو المطاعم وهى أمور أصبحت معتادة ويجب أن تلفت نظر الداخلية التى يبدو أنها لا تتحرك إلا إذا وقعت الكارثة، ولنا فى ضحية «كيف» بمصر الجديدة نموذج للمأساة التى نعيشها.. ألم أقل من البداية إن «الانضباط أسلوب حياة.. مؤقتاً»..؟! ‏