المشاعر من الخطابات المكتوبة إلى «منفضة السجائر الافتراضية»
- أجهزة المحمول
- أعمال أدبية
- الاتصالات الحديثة
- الرسائل القصيرة
- العالم الافتراضى
- الفيديو كول
- الفيس بوك وتويتر
- القرن العشرين
- المرحلة الثانوية
- آباء
- أجهزة المحمول
- أعمال أدبية
- الاتصالات الحديثة
- الرسائل القصيرة
- العالم الافتراضى
- الفيديو كول
- الفيس بوك وتويتر
- القرن العشرين
- المرحلة الثانوية
- آباء
هذا الزحام لا أحد.. وتلك «الاتصالات» الناجزة والمتدفقة فى محيط إلكترونى لا أول له ولا آخر، تترك خلفها إنساناً وحيداً بائساً ومعزولاً وخالياً من أى أثر للتواصل الإنسانى الحقيقى.
منذ سنوات قليلة، وتحديداً من اللحظة التى انتشرت فيها أجهزة المحمول الذكية، أصبحت هناك صورة واحدة لشكل العلاقة بين البشر فى أى مكان على سطح الأرض، لا يختلف مضمونها المقبض من مكان إلى آخر.. إنها صورة مجموعة أفراد يجلسون حول طاولة واحدة فى النادى أو المقهى وداخل البيوت أيضاً، وكل منهم فى يده تليفون محمول لا يرفع عينيه عن شاشته، وباللمس ينتقل عبر فضاء الواقع الافتراضى فى الفيس بوك وتويتر وإنستجرام وسناب شات والواتس آب، وغيرها من المواقع والتطبيقات التى تتوالد بسرعة مذهلة، ليمتص كل منها جانباً جديداً من وقت واهتمام ومشاعر البشر ويلقى بها فى خضم «العالم الافتراضى» الذى تحول إلى بديل شبه كامل للواقع الحقيقى.
ومنذ سنوات وأنا أراقب هذه الظاهرة الكونية المخيفة: أسرة من أب وأم وأولاد، يجلسون معاً فى النادى، ولا يكاد أى منهم يتبادل حواراً متصلاً لأكثر من دقيقة مع الآخرين، يعود بعدها سريعاً إلى ملاذه الافتراضى، وقد حدث كثيراً أن رأيت الحسرة والإحباط على وجوه آباء وأمهات كانوا يتحدثون مع أبنائهم، وإذا بالأبناء ينصرفون أثناء الحديث إلى الموبايلات فى أيديهم.. وما هى إلا ثوان حتى تظهر على وجوههم الانفعالات مع «اللايكات والبوستات والكومنتات والصور» التى تستغرقهم تماماً وتنزعهم انتزاعاً من الواقع الحقيقى لتزرعهم فى فضاء إلكترونى لا ينبت فيه غير الوهم ولا تعيش فيه نبضة أو لمحة أو حكاية لأكثر من الوقت الذى تستغرقه لمسة على الشاشة.
فى بداية القرن العشرين اعترف الأمريكيون لأول مرة بأن «جرهام بيل» مخترع التليفون فى القارة الجديدة كان له فضل كبير فى تقليص عزلة الريف عن المدينة، وفى أوائل القرن العشرين أيضاً جاء من طرابلس الشام إلى مصر، أديب مرموق هو «فرح أنطون» ونشر روايته «أورشليم الجديدة» عام 1905 وفيها تحدث على لسان أحد أبطال الرواية عن مستقبل الإنسانية الذى سيتمكن فيه الإنسان المغترب فى إحدى القارات، من الحديث مع شقيقه فى قارة أخرى، وأن يسمع كل منهما صوت أخيه وكأنهما يتحدثان من مسافة أمتار قليلة، وبعد مائة سنة فقط تحققت نبوءة فرح أنطون ولكن بطريقة عكسية مذهلة، فقد أدت ثورة الاتصال إلى انقراض التواصل الإنسانى الحقيقى، وأصبح بإمكان أى إنسان أن يحادث شقيقه عبر الواتس والفيس بوك وأن يحادثه عبر الفيديو كول، وأن يتواصل مع أى إنسان آخر فى أى مكان وأن يسمعه ويراه بسهولة شديدة، دون أن يعنى ذلك أدنى درجة من درجات التواصل الحقيقى الذى عرفته البشرية قبل ثورة الاتصالات المذهلة.
وقبل تسعينات القرن العشرين، عرفت الإنسانية نوعاً من الكتب والمؤلفات والسير الذاتية التى اعتمدت بالكامل على «الخطابات المتبادلة» بين البشر، وهناك أعمال أدبية شديدة الأهمية كان «الخطاب المكتوب» فيها هو المحور الأساسى لتطور الحبكة الدرامية، مثل فيلم «البوسطجى» المأخوذ عن إحدى قصص الأديب الكبير يحيى حقى، وفيه يتسبب خطاب لم يصل، فى قتل «حبيبة» - زيزى مصطفى - على يد والدها دفناً لخطيئتها مع حبيبها.
ومنذ اللحظة التى انتشرت فيها عادة الرسائل القصيرة وأتحفتنا ثورة الاتصالات بأدوات جديدة للتواصل الإلكترونى راحت الخطابات المكتوبة تتراجع حتى انقرضت تماماً.. ومنذ أسابيع كنت أقضى إجازة فى قريتى وخطر لى أن أسأل عدداً من الأصدقاء والمعارف عن أحوال كتابة الخطابات فى القرية، فإذا بعدد منهم يستغرب السؤال وكأنه يسمع عن شىء خرافى، أما الذين فهموا قصدى فقد انتبهوا فى حسرة على أن هذا الطقس الجميل قد انقرض إلى غير رجعة.
وللقرية المصرية تحديداً، حكاية طويلة، وتاريخ مدهش مع الخطابات المكتوبة.. فلا تكاد توجد قرية مصرية واحدة، لم تعرف منذ منتصف سبعينات القرن العشرين هجرة المئات من أبنائها إلى الدول النفطية والأوروبية بحثاً عن الرزق، وقد شاءت ظروفى أن أقضى كل سنوات دراستى من المرحلة الثانوية وحتى تخرجى فى الجامعة فى كتابة خطابات الأهالى لأبنائهم المسافرين، وقراءة الخطابات الواردة من أبنائهم. وما زلت حتى الآن أتذكر بقوة دموع الأمهات والآباء السخية وهى تجرى من عيونهم مع قراءة الديباجة الثابتة التى كان يلجأ إليها كتاب الخطابات: «أحن إليكم كما يحن الزرع إلى الماء.. والمريض إلى الدواء.. والطفل إلى ثدى أمه»!.
ومع انتشار أجهزة الكاسيت التى أرسلها المسافرون إلى ذويهم، أصبحت الشرائط المسجلة هى وسيلة التواصل مع المغتربين.. كانت الأسرة وأحياناً العائلة تجتمع حول جهاز الكاسيت لتسجل عدة شرائط لابنها المغترب، وكان كل بيت آنذاك يحتفظ بكومة خطابات وعدد هائل من أشرطة الكاسيت، يعودون إليها من وقت لآخر، بل ويعود إليها الشخص الذى أرسلها عندما تنتهى غربته ويعود إلى وطنه وبيته، وكان بإمكان كل إنسان عاش فى هذه الفترة أن يلامس مرة أخرى أغلى وأهم ذكرياته كلما أراد ذلك.
ومع الانتشار الكاسح لوسائل الاتصالات الحديثة، أصبح الفضاء الافتراضى وكأنه «منفضة سجائر كونية» نلقى فيها برماد حياتنا وأيامنا ومشاعرنا وأحزاننا، لتذروها رياح العزلة والوحدة دون رحمة.. حتى إذا انتبه الإنسان منا ذات يوم إلى نفسه ومحيطه، وبحث عن آثار وجوده أو مشاعره فى الحياة، فلن يعثر فيها على شىء غير العدم. فنحن نزرع فى فضاء بلا تربة، ونحب ونبارك ونعيد على الأقارب والمعارف بملصقات لورود افتراضية، ونشارك الآخرين أحزانهم وأفراحهم مشاركة افتراضية لا تكلفنا مغادرة أماكننا، ولكنها تتركنا فى النهاية فارغين تماماً من نعمة التواصل الإنسانى الحقيقى.. ومن فرح العيون والأيادى والأحضان وهى تنقل الدفء الإنسانى من روح إلى روح ومن جسد إلى جسد.
تُرى، ما الذى ينتظر «التواصل الإنسانى» مع التطورات المتلاحقة فى عالم الاتصال الإلكترونى؟.. وأى كائنات تلك التى ستعيش حياة كاملة تحولت قطرة قطرة، إلى «لايكات وبوستات وكومنتات» فى منفضة السجائر الافتراضية؟.. إن النار الافتراضية لا تدفئ من البرد، والنبع الافتراضى لا يروى عطشاً.. والمزارع السعيدة على الفيس بوك لا تطرح قمحاً ولا ورداً.. ولهذا أخشى أن نصحو على «إنسان جديد» هو نسخة مكررة مليارات المرات لكائن واحد بلا لون ولا رائحة ولا ظل ولا طعم، مثل باقات ورد صناعية أنتجتها ماكينة واحدة ونثرتها فى أرجاء المعمورة!.