مريد البرغوثي.. حبٌ يشرق وجه القصيدة

كتب: شريف حسين

مريد البرغوثي.. حبٌ يشرق وجه القصيدة

مريد البرغوثي.. حبٌ يشرق وجه القصيدة

تدلل كل قصة كبيرة على أن الحب في كل مراحله، رحلة قدرية بحتة من البداية حتى الانتهاء، مهما حاول طرفاه التخطيط له وإدارته أو رسم حدودٍ ومسارات له، وهكذا لعبت الأقدار دورها في حمل شاب فلسطيني من وطنه إلى القاهرة، حتى يلتقي بحبيته ويؤسسان لقصة حب استمرت 45 عاما.

كان مقدرا لمريد البرغوثي أن ينهي تعليمه في مدرسة رام الله الثانوية بفلسطين ثم يشد الرحال إلى مصر عام 1963 لكي يلتحق بكلية الآداب ويقف ليلقى إحدى قصائده على سلم الكلية، ويتصادف وقتها وجود فتاة صغيرة الحجم اسمها رضوى عاشور، ليصبح هذا الموقف مشهدا تأسيسيا بدأت به قصة الحب التي لم يكتب لها نهاية حتى بعد وفاة رضوى.

بعد كل هذا الحب وكل هذه السنوات، أسبغت عليه رضوى من مصريتها، ونمت بداخلها فلسطينيته، حتى إنها كتبت عن فلسطين كوطنها الأم الذي تحفظ فيه الأماكن وتتوغل بداخلها، كأنها فلسطينية المولد والنشأة والجذور، وروت عن فلسطين في كتاباتها بإحساس يتجاوز مجرد الإيمان بالقضية إلى حد كونها جزءًا أصيلا من هذه السيرة ترويها كما تحكي عن نفسها، وبدأ هذا التأثر في أول أعمالها وكان كتابا نقديا حمل اسم "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، وتناول تجربة الأديب الفلسطيني الشهير غسان كنفاني.

ولأن قوة العلاقات تقاس بحجم الصعوبات التي تواجهها، فإن حب مريد ورضوى اصطدم بأول عقبة قبل أن يتزوجا، فرفض والدها الزيجة ووصف ابنهما تميم ذلك قائلا: أمي وأبويا التقوا والحر للحرة

شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد

قالولها ده أجنبي، ما يجوزش بالمرة

قالت لهم يا العبيد اللي ملوكها عبيد

من إمتى كانت رام الله من بلاد برة

يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني

من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد

المحنة الثانية كانت أشد، مريد يعترض على زيارة السادات لإسرائيل، فيبعد عن مصر مدة وصلت إلى 17 عاما، ظل في البداية 7 سنوات كاملة لم يدخل فيها بيته ولم ير زوجته ولا ابنه، ثم 9 سنوات أخرى كان يُسمح له فيها بالدخول لمدة أسبوع أو أسبوعين بواسطة وتصاريح أمنية، لكن هذا الشتات الذي عمَّق الإحساس بالهزيمة والوحدة، لم يطفئ الشوق بل منحه درجة من الصعوبة والمعاناة جعلتهما يقبضان على الحب في الزمن الصعب.

وبخلاف مشاعر الحب الجارف، ظل مريد طيلة هذه السنوات يحمل لرضوى مشاعر عرفان ليس فقط لأنها منحت حياته حبا حقيقيا يصارع من أجله وهو مؤمن به وبضرورته لاستمرار الحياة، وإنما لنظرته لها كأنثى وأم.

ويقول مريد عن هذا في كتابه "رأيت رام الله": "قلت لرضوى عندما خطونا الخطوات الأولى مغادرين باب المستشفى وهي تحمل تميم على ذراعيها وعمره يومان فقط: (تميم كله لك، أشعر بخجل شخصي من حقيقة أنه سيحمل اسمي وحده دون اسمك في شهادة الميلاد)".

ويقول مريد عن رضوى عام 1983 في قصيدة "طال الشتات":

أنتِ جميلةٌ كوطنٍ مُحرَّر

وأنا مُتعَبٌ كوطنٍ مُحتلّ

أنتِ حزينةٌ كمخذولٍ يُقاوِم

وأنا مُستَنهَضٌ كحربٍ وشيكَة

أنتِ مُشتهاةٌ كتوقّف الغارة

وأنا مخلوعُ القلب كالباحثِ بين الأنقاضْ

أنتِ جَسورةٌ كَطَيّارٍ يتدرّب

وأنا فخورٌ كجدّته

أنتِ ملهوفةٌ كوالد المريض

وأنا هادئٌ كمُمَرِّضَة

كلانا جامحٌ كالانتقام

كلانا وديعٌ كالعفْو

أنتِ قويّةٌ كأعمِدة المَحْكَمَة

وأنا دَهِشٌ كَمَغْبونْ

وكلما التقينا تحدَّثْنا بلا توقّف كمحامِيَيْنْ

عن العالَمْ

ويقول في قصيدة أخرى:

فهاتي نظرة في البعد أجلس في مساحتها

كطفلٍ بعدما عوقب

يقرفص صامتًا ويغالب الدمعا

يظل معلق النظرات يرسلها إلى أمه

كأن صلاة كل المؤمنين تحل في جسمه

فيخشع بين أيديها

وقد يضحك وقد يبكي

فهاتي نظرة في البعد أجلس في مساحتها

كطفلٍ بعدما عوقب

وأسكن في هدوء الليل

إجلالاً لما تخفيه عيناك

ينقص بُعدها عنه شيئا بداخله، يكتب لها حين أبعدته السياسة عن مصر، يكتب لها متأثرا بغيابها من أجل إنجاز رسالة دكتوراه بالولايات المتحدة، يكتب لها حين تمرض وتسافر لإجراء عملية جراحية "عودي يا ضحكتها، عودي"، يكتب لها ويتحدث عنها حين تموت.

أول قصيدة كتبها لها وحملت اسم "رضوى":

ويهتف كالطفل: ها قد أتيت

تعالوا اشربوا

فيشرب منه اليمام وأهل القرى

وقوافل ضلت، وسنجابة تلعب

وتنغمر الأرض بالبرتقال

وتحمر فيها الورود، وتنضج كل الثمار الوليدة

كذلك حبك يدخلني

ويشرق وجه القصيدة


مواضيع متعلقة