إبراهيم أصلان.. والغربة الإنسانية

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

سألت الأديب الروائى والقاص الكبير «إبراهيم أصلان» قبل أن يرحل عن دنيانا: هل درست الفلسفة؟!

نظر إلىَّ متأملاً فى هدوء بعينيه الثاقبتين العميقتين.. واتسعت ابتسامته الوادعة الغامرة بالدفء والحميمية التى يصافح بها كل من يلقاهم وكأنه يوزع عليهم فيض حنوه عليهم.. ومزجها بدهشة طفل مستفسرة بتواضع جم.. وكأنه يشعر أنى أسبغت عليه ميزة هو لا يستحقها.

- ما سبب السؤال؟!

قلت:

- منذ أن قرأت مجموعتك القصصية الأولى.. «بحيرة المساء» التى صدرت فى الستينات من القرن الماضى.. وأنا أشعر بأنك تكتب القصة الفلسفية التى تتجاوز فى أبعادها إلحاحات الواقع الاجتماعى المباشر -رغم عنايتك الشديدة بها- ونوازع النفس الإنسانية -رغم أنها تشكل أهمية بالغة عندك فى أسلوب السرد- إلى قضايا أكثر عمقاً واتساعاً ورحابة تتصل بالمصير الإنسانى ومعنى الوجود.. وجدوى الحياة.. ولغز الموت.. وعبث السقوط فى العدم.. وزيف التواصل الإنسانى.. والإحساس الطاغى بالغربة.. وعدم الانتماء.

وذكرته بتلك القصة القصيرة البديعة التى حفظت سطورها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. وظلت محفورة فى ذاكرتى لا تفارقها حتى الآن.. التى تتشابه فى عالمها الخلاب مع عوالم «تشيكوف» الآسرة بعمق مغزاها.. وإيجاز عباراتها.. وإنسانية فحواها.. واسمها «البحث عن عنوان».. وهى تتحدث عن رجل نحيل يقف أمام محطة أوتوبيس.. وعن قرب يقف بالقرب منه رجل بدين.. ما أن تقع عليه عيناه حتى يسرع إليه.. يحاول أن يذكره بنفسه.. ويدهش أن الآخر قد نسيه تماماً.

- كيف لا تذكرنى؟!.. ألا تذكر «سيد البلتاجى» الذى كان يجلس وراءك فى الفصل؟!.. وراءك مباشرة؟!.. يبدو أنك كبرت.. ذاكرتك أصبحت ضعيفة..

ثم يتوالى حديث الذكريات.. ويدهش من رزانته وهدوئه.. بينما كان فى الماضى أشقى تلميذ رأته عيناه..

- هل تذكر «مبروك».. الولد الأسمر الذى كان يجلس أمامك وكنت تخطف منه الغذاء.. ودلقت الحبر مرة فى قفاه؟.. لقد رأيتك وشهدت عليك.. وما كاد المدرس أن ينقض عليك ليضربك حتى قفزت من النافذة.. كنت شيطاناً حقيقياً..

سأله النحيل:

- وماذا فعل الولد؟!

يخبره لا بد أنه بكى واشتكى لأمه..

ويضحك البدين فى استغراق حتى ينتبه إلى قدوم الأوتوبيس.. وكان قبلها قد طلب من النحيل أن يعطيه عنوانه حتى يزوره ليصلا ما انقطع وينعمان مرة أخرى بالصداقة التى جمعت بينهما فى الماضى.. لكنه تركه وقفز من على الطوار.. وهرول إلى الأوتوبيس الذى كان على وشك التحرك.. وهو يهتف ماداً يده:

- العنوان.. لم تعطنى العنوان..

فعل ذلك فى نفس اللحظة التى تحركت فيها العربة.. بينما وقف النحيل وقد تغضن وجهه عن ذى قبل يتحسس ذقنه بأصابعه الطويلة.. أزاحه بعض المارة عن مكانه قليلاً وتراجع إلى الوراء فى خطوات آلية مثقلة، وأسند ظهره إلى سلة المهملات.. وظل يتطلع إلى بعيد حيث غابت العربة..

قلت لـ«إبراهيم»:

- إن القصة تجسد الإحساس القاسى بالغربة الإنسانية بمعناها الوجودى حيث فقدان التواصل بين البشر.. «فالنحيل» لا يتذكر عالماً بأكمله نسجه «البدين» من تفاصيل ماضٍ بدا سحيقاً.. وربما نسجه كله من خياله.. وألف أحداثه ومواقفه والأبعاد النفسية لشخوصه.. لهوهم وضحكهم وعبثهم.. صخب الحياة وعنفوان الصبا، هذا النسيان الذى يشى بموت الاشتياق إلى حياة متجددة يقابله الرغبة الملحة فى الوجود والتحقق والتواصل.. هو موقف فلسفى.. يذكرك بـ«سوء التفاهم» عند «البيركامو» ونظرية «الآخر ليس أنا» عند «سارتر».. حيث الوجود يعانى من مأزق غياب اللغة المشتركة.. كما أن الزمن ليس زمناً واقعياً.. ولكنه زمن وجودى فالماضى مات وتحجر بالنسبة للنحيل.. والحاضر يتسرب كالماء بين الأصابع.. والمستقبل وهم عبثى (حيث إن البدين صعد إلى الأوتوبيس الذى اختفى به دون أن يحصل من النحيل على العنوان).. وباطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح..

قال لى «أصلان» إنه لا يتعمد تأليف الموقف الفلسفى.. ولكنه يلتقط فكرة إنسانية من لحظات الحياة العابرة.. ويصوغها فى بساطة دون أن يتعسف فى فرض مسار معين للقصة ليؤكد به وجهة نظره أو رؤيته الخاصة.. كما أنه لا يتدخل ليصدر أحكاماً أخلاقية على شخصيات قصصه.. ووجوده كمؤلف هو وجود المتفرج الذى لا يصح أن يتخذ موقفاً اجتماعياً أو بشكل مصير شخصياته أو يعاملهم بمنطق الثواب والعقاب، فالنقص صفة لصيقة فى جوهر الإنسان، فالذنب هو ذنب الوجود نفسه.

ومن هنا فقد تعددت وتنوعت فى ثراء وزخم شخصيات قصصه.. وهى فى معظمها شخصيات بسيطة مهمشة تمتهن مهناً متواضعة وتقطن فى أحياء شعبية فقيرة.. وتسلك فى معظم الأحوال سلوكاً غريباً.. يكشف عن أحلام -رغم بساطتها- تبدو صعبة المنال.. عسيرة التحقق..

ومن جملة التفاصيل الصغيرة والإحساس الطاغى بالمكان.. ينسج «إبراهيم أصلان» بشاعرية أخاذة، ولغة ساحرة -رغم تلغرافيتها واقتضابها فى كثير من الأحوال- وحس جمالى راقٍ، عالماً مدهشاً يغوص فى أسرار حياة وألغاز بشر يعيشون فى وجود غامض ومحير وساكن يضن على بشره بالحركة ويضنون عليه بالتفاعل والتأثير.. وهم تعساء لكن قلوبهم تفيض بالحب والعطاء والأمل فى تجاوز ظروفهم الصعبة دونما رغبة فى أى تمرد على الواقع الاجتماعى.

كان «أصلان» كاتباً عظيماً وإنساناً بديعاً قلما يجود الدهر بمثله.. وستظل أعماله عطراً فواحاً لا يتبدد مع الأثير عبر الزمن.