أقباط مصر والفتح العربى

أقباط مصر والفتح العربى
- أحداث العنف
- أقباط مصر
- أهل مصر
- الإخوان المسلمين
- الاعتداء على الكنائس
- الجماعات الدينية
- الجماعة الإسلامية
- الجيش العربى
- الحالة الاقتصادية
- آباء
- أحداث العنف
- أقباط مصر
- أهل مصر
- الإخوان المسلمين
- الاعتداء على الكنائس
- الجماعات الدينية
- الجماعة الإسلامية
- الجيش العربى
- الحالة الاقتصادية
- آباء
هيّأ الإسلام للعرب «إمكانيات نسخ صورة المستعمر» كما عرفها المصريون من قبل على أيدى الرومان والبيزنطيين، فإن الخلاف الحاد حول الموقف من الأقباط الذين فضلوا البقاء على دينهم، وحول مسألتى الخراج والجزية بصورة أخص، كان سبباً رئيسياً فى إهدار هذه الإمكانية.
ويروى «ابن عبدالحكم» أن الخليفة عمر بن الخطاب تقدم إلى عمرو بن العاص، وكان والياً على مصر، فى أن يستشير البطريق بنيامين فى خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه البطريق بخمسة شروط: أن يستخرج خراج مصر فى أوان واحد عند فراغ الناس من زرعهم، وأن يرفع الخراج فى أوان واحد عند فراغهم من عصر كرومهم، وأن تحفر خلجانها كل عام، وأن تصلح جسورها وتسد ترعها، وألا يُختار عامل ظالم لولاية أمور الناس.. وكان الشرط الأخير أصعبها، فإن العادة التى جرى عليها الحكام فى اختيار عمالهم «أى ولاتهم» كان لا بد أن توجد فيهم تلك الصفات التى تفسد نظام الحكم وتجعله مشئوماً.
ونحن لا نشك -يقول «ألفريد ج. بتلر» فى كتابه «فتح العرب لمصر»- فى أن عمرو بن العاص كان فى أول حكمه لا يقصد إلا العدل والرأفة بأهل البلاد، ولكن الخليفة (عمر بن الخطاب) لم يواتِه فى هذا ولم يوافقه عليه!
ويورد «بتلر» بعد ذلك جانباً مما كان عليه الرجلان (الخليفة وواليه) فى صلتهما.. فقد كتب عمر مرة إلى عمرو: «أما بعد.. فإنى فكرت فى أمرك والذى أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً وقوة فى بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدى نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدب.. ولقد أكثرت فى مكاتبتك فى الذى على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تفيق فترفع إلىّ ذلك، فإذا أنت تأتينى بمعاريض تعبأ بها لا توافق الذى فى نفسى.. لست قابلاً منك دون الذى كانت تؤخذ من الخراج قبل ذلك..».
ورد عمرو قائلاً: إن الخراج كان من قبله أوفر وأكثر والأرض أعمر لأن الفراعنة على كفرهم كانوا أرغب فى عمارة أرضهم من العرب منذ كان الإسلام، ثم وجه إليه شكوى مما وجهه إليه من شديد التأنيب وقال: «فامضِ عملك، فإن الله قد نزهنى عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها، بعد كتابك الذى لم تستبق فيه عرضاً ولم تكرم فيه أخاً». ورد عمر فى جفاء: «.. ولم أقدمك إلى مصر لأجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكنى وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإن أتاك كتابى هذا فاحمل الخراج فإنما هو فىء المسلمين». فطلب عمرو أن ينتظر به على الناس حتى تدرك غلتهم -متبعاً فى ذلك مشورة بنيامين- وقال لـ«عمر» إنه لا يستطيع أن يزيد الخراج على الناس بغير أن يؤذيهم، وإن الرفق بهم خير من التشديد فى أمرهم وإكراههم على أن يبيعوا ما هم فى حاجة إليه فى أمور معيشتهم، لكى يؤدوا ما يطلب منهم، غير أن عمر دبر أذنه، ولم يستشعر رحمة فى جباية الأموال.. فأرسل «محمد بن مسلمة» إلى مصر وأمر أن يجبى منها ما استطاع من المال فوق الجزية التى أرسلها عمرو من قبل.. وقيل فى رواية أخرى إنه إنما أوفده إلى عمرو لكى يقاسمه ماله.. ولقد اتهم «ابن مسلمة» عمرو بن العاص بأنه كان يتستر بالدفاع عن أهل مصر «لحاجة فى نفسه يريد قضاءها»!. كما اتهمه عمر بن الخطاب بالخيانة والتفريط، وهو ما استبعده «بتلر»، مؤكداً أن عمر بن الخطاب «أولى بأن يتهم بالحرص»!! فقد روى البلاذرى أن عمر كان كلما استعمل عاملاً على بلد، أثبت مقدار المال الذى عليه جبايته منه، فإذا زادت الجباية على ذلك شيئاً قاسم العامل فيه أو أخذه فى بعض الأحيان كله لنفسه، ولهذا لم ينجُ منه خالد بن الوليد، فإنه بعث إليه فى الشام بمن يحاسبه على ماله، وأمره أن ينزل عن نصفه، حتى لقد قيل إنه «أخذ إحدى نعليه»!!.. وقد أشار بعضهم على عمر بأن يرد عليه ما أخذ منه فقال: «والله لا أرد شيئاً، فإنما أنا تاجر للمسلمين»! ولكنه -يرى بتلر فى إشارة لا تخلو من خبث- كان إذا قال «المسلمين» لم يقصد إلا نفسه أو تلك الفئة القليلة التى كانت معه فى مكة، ويقول: إن ذلك الرأى الذى كان يراه فى أداء أمانته نحو المسلمين وملء بيت المال مما يجمعه من البلاد التى فتحها المسلمون منذ حين.. كان سبباً فى القضاء على حياته!!
{long_qoute_1}
ويبدو أن عثمان بن عفان قد تعلم الدرس، إذ ما إن ولى الخلافة بعد عمر حتى عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر واستعمل عليها عبدالله بن سعد بن أبى سرح، وكان عمر استعمله مع عمرو على الصعيد والفيوم، فزاد عبدالله فى جباية الأموال ألفى ألف دينار «أى مليونين»، حتى بلغ ما جمعه أربعة عشر ألف ألف، فقال عثمان لعمرو: «إن اللقاح بمصر بعدك قد درت ألبانها»، فأجابه عمرو: «ولكنها أعجفت فصيلها».. وهذا «حيان بن سريج» عامل خراج مصر، يكتب هو الآخر إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز (99-101هـ/717-720م): (أما بعد.. فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من «الحارث بن ثابت» عشرين ألف دينار، وتممت غطاء أهل الديوان).. وجاءه الجواب قاطعاً: (.. فضع الجزية عمن أسلم -قبح الله رأيك- فإن الله إنما بعث محمداً «صلى الله عليه وسلم» هادياً ولم يبعثه جابياً! ولعمرى.. لعمر أحقر من ألا يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه!).
واستناداً إلى هذه الأرقام، يصعب القول بأن حكم العرب كان أخف وطأة على المصريين من حكم الرومان، إذ إن الأموال التى ذكرها مؤرخو المسلمين كان مقصوداً منها أموال الجزية فقط، فى حين أن ما يذكر عن أموال الروم لم يقصد بها، فى أغلب الظن، أموال الجزية وحدها، إذ إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس، وضرائب أخرى كثيرة العدد وغير عادلة، ويقدر مؤرخو المسلمين هذه الأموال بعشرين ألف ألف دينار.
إلى ذلك، يرى «بتلر» أن عهد الصلح مع الأقباط كان كفيلاً من الوجهة النظرية بأن يكونوا آمنين فى دينهم، غير أن الأمر صار بعد حين إلى خرق العهد ونقضه.. فالحق أن الأمن فى الدين إذا كان مقترناً بأن يكون الرجل مهيناً بين الناس وأن يحمل ثقلاً من ماله.. لم يكن أمناً حقيقياً ولا باقياً، فلما انتشر الإسلام بين الناس زادت وطأته اشتداداً على الأقباط، وأصبح عبء الجزية ثقيلاً، لا ترضاه النفوس، وأصبح أصحاب الجزية من اليهود والنصارى بعد حين وقد صاروا فى قلة ظاهرة بسبب من كان يسلم منهم عاماً بعد عام، فكان هذا الأمر فاسداً، إذ هو بمثابة رشوة لتحريض النصارى على الخروج من ملتهم، فوق ما كان من أثره فى نقص الأموال نقصاً ظاهراً.
غير أن الغالبية العظمى من مؤرخى المسلمين القدامى أو المعاصرين، تميل إلى الاعتقاد بعدم صحة هذه الاستنتاجات، وترى فى رواية بتلر وكثير من مؤرخى الغرب افتئاتاً على العرب والإسلام.. «فإننا نجد فى جميع أحكام الجزية وغيرها من الضرائب الإسلامية.. العدل والرحمة، فلا تجبى الجزية إلا من رجل حر عاقل قادر على أدائها، بينما يعفى النساء والشيوخ والأطفال والمساكين والمغلوبون على عقولهم».
وتنفى الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف فى كتابها (مصر الإسلامية وأهل الذمة) ما ذهب إليه «ساويرس بن المقفع»، مؤرخ سير الآباء البطاركة، من أن الهروب من الجزية كان أكبر عامل على انتشار الإسلام فى مصر.. وتتساءل: كيف حافظ المصريون إذن على ديانتهم المسيحية إزاء تعسف الرومان ثم البيزنطيين المالى والاقتصادى؟! لكنها لم تغفل الإشارة إلى ثورات المصريين فى الوجهين البحرى والقبلى ضد أعباء الضرائب وزيادة الخراج.. وذلك بعد أن أصبحت ضريبة الخراج تفرض على الأرض سواء أسلم مالكها أو بقى على دينه، وسواء كان عربياً أم من المصريين.. أما فرض الجزية على الذين يسلمون حديثاً.. فأصبح مبدأ تتخذه مصر والبلاد الإسلامية المختلفة فى ظروف مالية معينة وإذا دعت الحالة الاقتصادية إلى ذلك.. كأن يحدث انخفاض فى النيل أو قحط وغلاء أو «يدخل الإسلام عدد كبير من الذميين»!{left_qoute_1}
وإذا كانت الجزية قد أُلغيت نهائياً فى مصر إبان تولى سعيد باشا سدة الحكم فى عام 1854 حيث انتظم الأقباط بالفعل فى سلك الجيش منذ عصر خلفه الخديو إسماعيل.. فثمة أمور أخرى كثيرة جرت عليها العادة، لكنها أصبحت فى حكم القانون، وصار الناس ينظرون إليها فيما بعد وكأنها من أصل الدين ومن أحكام الإسلام.. وقد ذكر الماوردى، مثلاً، أنه لا يحق لأهل الذمة أن يتخذوا لأنفسهم كنائس أو بيعاً جديدة فى ديار الإسلام فإذا بنوا لأنفسهم ذلك هُدم ولكن لهم أن يعيدوا بناء ما تهدم.. وبعض هذه الأمور مما اعتبر مرجعاً أساسياً للعلاقة بين المسلمين والأقباط حتى وقتنا هذا، لم يكتفِ بالتفرقة بينهما على أساس دينى، بل شمل جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية، كأن يلبس أهل الذمة لباساً خاصاً بهم، وأن يعقدوا الزنانير على أوساطهم، وألا يعلو بنيانهم على بنيان المسلمين، وأن تقام مآتمهم ويدفن موتاهم بغير احتفال وأن يتجنبوا ركوب الأصائل من الخيول.
ويقول الدكتور سلام شافى محمود سلام فى كتابه (أهل الذمة فى مصر) إن بعض هذه القيود الاجتماعية قد ورد فى «العهد العمرى» المنسوب إلى الخليفة عمر بن الخطاب، تحت اسم «الشروط المستحبة».. وإن كان البعض يرى أنها من وضع الفقهاء فى مرحلة متأخرة.
وترجح الدكتورة سيدة الكاشف أن هذه الشروط ظهرت بأشكالها المتكاملة المختلفة منذ مجىء الصليبيين إلى الشرق فى أواخر القرن الخامس الهجرى «الحادى عشر الميلادى»، حين أخذ بعض المسيحيين فى الشام يساعدون الصليبيين! كما برزت هذه الشروط فى مصر حين تسلط أهل الذمة على المسلمين فى النواحى الإدارية والمالية، وتعالوا عليهم، وقام بعضهم بحركات تخريبية ضد المنشآت الإسلامية.. وربما كانت هذه الأسباب هى التى حدت ببعض الفقهاء إلى إظهار القول بنسبة هذه الشروط إلى عمر بن الخطاب كى يقتنع أولو الأمر بأخذ أهل الذمة بالشدة ووضعهم فى موضع الأقليات، الأمر الذى لم يكن متبعاً من قبل، لا فى مصر ولا فى غيرها من ديار الإسلام.
ومجمل القول إن العلاقة بين أقباط مصر والعرب الفاتحين من وجهة نظر غالبية مؤرخى المسلمين وقلة من مؤرخى الغرب، كانت شبه مثالية، سواء فى عصر الفتوحات أو فى العصور الوسيطة أو الحديثة.. وإذا دققنا النظر فى بعض الحوادث الفردية التى سيطر فيها ضيق الأفق والتعصب فإننا لا نستطيع تفسيرها -تقول الدكتورة سيدة الكاشف- إلا باعتبارها حوادث عادية داخل نطاق الأسرة الواحدة، أو هى أعمال غوغائية لا يمكن مقارنتها بما شهدته أوروبا فى العصور الوسطى.. أما بعض المشاغبات العنيفة التى قام بها نفر من أهل الذمة أو المسلمين فى عصر المماليك.. فقد نسبها رؤساء أهل الذمة أنفسهم إلى قلة من السفهاء، واعتبرها المقريزى حركات مستهجنة «أتت من بعض السفلة».
والواقع أن ما من فترة تاريخية «سيطر فيها ضيق الأفق والتعصب» على علاقة المسلمين والأقباط.. إلا وكانت فترة انحطاط سياسى واجتماعى واقتصادى، سواء إبان حكم المماليك عندما كان سلاطينهم يحاولون استرضاء بعض العلماء المسلمين ومراعاة مشاعر العامة، أو فى مطلع القرن الحالى.. عندما سعى اللورد كرومر إلى إشعال فتيل الفتنة بين عنصرى الأمة بهدف ضرب الحركة الوطنية التى كانت تصدت للاحتلال البريطانى فى ذلك الوقت أو حين اعتقد الرئيس السادات أن إثارة النعرات الطائفية وضرب القوى السياسية والاجتماعية بعضها ببعض.. سيساعد فى تثبيت دعائم حكمه، فكان أول ضحايا هذه اللعبة الرخيصة!!
ولسنا نشك فى أن هذه المحاولات وغيرها كانت تحمل من البداية بذرة فشلها غير أنها حركت فى نفوس بعض الأقباط -وإن على غير رغبة منهم- شعوراً مكتوماً بالمرارة.. كونهم عوملوا وما زالوا يعاملون كـ«قلة فى بلد هم بالفعل أصحابه الحقيقيون»!.
{long_qoute_2}
ورغم أنه شعور خاطف، لم يحدث مرة أن عكس نفسه تلميحاً أو تصريحاً، قولاً أو فكراً أو سلوكاً، فضلاً عن أنه لا يصمد إزاء ما عُرف عن أقباط مصر من تنزه وتفانٍ وإعلاء لقيمة الوطن.. فإنك لا تستطيع -وقد أفتى باستباحة مالهم وعرضهم، واعتبرهم الفاشيون الجدد عقبة فى سبيل دولتهم الإسلامية المزعومة!!- إلا أن تتوقف قليلاً أمام الجدل الذى أثير بشأن موقف أقباط مصر من الفتح العربى!
هناك شبه إجماع على أنهم رحبوا بهذا الفتح، بل قدموا خدمات جليلة للجيش العربى.. غير أن بعض كتاب الغرب وصم هذا الموقف بالخيانة، إذ كيف يسلم الأهالى بلادهم إلى غرباء؟! ودافع بعض مؤرخى الأقباط عن موقف أسلافهم وأبرأوا ساحتهم واتهموا المقوقس -الحاكم البيزنطى- بالخيانة، وتسليم مصر للعرب.
ونحن نرى أن اتهام المقوقس ليس منطقياً لأسباب أهمها أنه كان يحكم مصر من موقع المحتل المغتصب، وكان من أكثر حكام مصر الغرباء تنكيلاً بأهلها واضطهاداً لهم فى ديانتهم، ومن ثم لا تجوز عليه تهمة «الخيانة».. من ناحية أخرى فإن فتح العرب لمصر قوبل بعنت ومقاومة.. أسهبت فى وصفها جميع الروايات التاريخية، بل إن مصر كادت تسقط مرة أخرى فى أيدى الرومان فى السنة الخامسة والعشرين من الهجرة، أى بعد أربع سنوات فقط من الفتح.. عندما استجاب الإمبراطور الرومانى «قسطانز» لجماعة من زعماء الإسكندرية أنفذوا إليه كتباً يسألونه أن يخلصهم من ظلم المسلمين (وكانت الضرائب قد زادت أثناء ولاية عبدالله بن سعد على مصر) فاغتنم قسطانز الفرصة وتهيأ لرد الهزيمة واسترجاع البلاد، وأرسل أسطولاً عظيماً بقيادة «منويل»، احتل الإسكندرية وسار إلى قرى مصر السفلى ينهب ويغصب، لولا أن عاد عمرو بن العاص إلى مصر وجهز جيشاً حاصر الإسكندرية وقاتل الروم قتالاً مريراً حتى استردها.
لسنا بصدد الدفاع عن الاحتلال الرومانى بالطبع، ولا نسعى إلى تبرئة المقوقس من جرائمه، ولكننا نريد أن نقول إن أقباط مصر ربما كانوا قد رحبوا بالعرب.. لا حباً فيهم، بل كرهاً فى الرومان والبيزنطيين.. وقد نفى القس أنسطاس شفيق فى ندوة «الأقباط والقومية العربية» التى نظمتها مجلة المستقبل العربى فى نوفمبر 1981 أن يكون الأقباط قد ساعدوا العرب من باب التفريط فى أرض مصر أو لقبول حكم غريب. وأعلن صراحة: «لو أدرك الأقباط أن العرب دخلوا مصر لكى يستوطنوا بها كحكام.. لقاوموهم»!!
ويقرر الدكتور محمد عفيفى فى مقدمة كتابه (الأقباط فى مصر فى العصر العثمانى) أن مساعدات الأقباط للعرب كانت نكاية فى البيزنطيين وأملاً فى الخلاص منهم وبحثاً عن الاستقرار.. ويؤكد أن تأثير الخلاف المذهبى بين البيزنطيين وأقباط مصر كان من الوطأة بحيث فسر ساويرس بن المقفع هزيمة الروم أمام العرب بقوله: «كان الرب يخذل جيش الروم قدام الجيش العربى لأجل أمانة الروم الفاسدة والحروب التى حلت بهم بسبب مجمع خلقدونية»! ويشير الدكتور عفيفى إلى أن أقباط مصر قبلوا عهد الذمة على مضض «لأنهم يرون فى أنفسهم أصحاب البلاد الأصليين، فكيف ينتقص العهد من حقوقهم وحرياتهم، ويضعهم فى مرتبة أقل من المسلمين؟!».. ويضيف: «ازداد تمسك الدولة بتطبيق نصوص عهد الذمة مع تحول الأقباط إلى أقلية فى وسط مجتمع إسلامى سادت مظاهره على مظاهر الحياة السابقة فى مصر القبطية.. وإن لم تطغ عليها بحيث تجعلها تتلاشى.. وزاد ذلك الأمر من كم الحساسية المتراكم فى نفوس الأقباط».
{long_qoute_3}
وإذا كانت المصلحة الوطنية قضت على الدوام بألا نقيم وزناً لما ذهب إليه المغالون من مؤرخى الأقباط كقولهم إن انتشار الإسلام فى مصر لم يتحقق إلا من خلال اضطهاد المصريين وإجبارهم على اعتناق الدين الجديد، أو برشوتهم (رفع الجزية عمن أسلم منهم وإسناد المناصب المهمة إليهم).. فإن أقباط مصر بسبب وضعهم كأقلية، دفعوا وسيدفعون ثمناً باهظاً للخلط المتعمد بين مصالح الوطن ومصالح الفئة الحاكمة.
فالمتأمل لأحداث العنف فى الصعيد سيلاحظ تركزها بصورة خاصة فى المنيا وأسيوط.. حيث توجد أعلى كثافة للمسيحيين (20 و19٪ من مجموع السكان على التوالى حسب إحصاء 1976).. ورغم وجود دوافع أخرى للعنف فى كل محافظات الصعيد -كالبطالة وتخبط السياسات الزراعية وتفتت الملكيات وتدنى عوائد الأرض قياساً إلى تكلفتها، إلى جانب الفراغ السياسى وتصاعد معدلات الزيادة السكانية وتدنى مستوى الخدمات.. إلخ- فإن المنيا عبرت عن أزمتها فى البداية بصورة طائفية.. إذ قامت مجموعة من أعضاء تنظيم الجهاد فى عام 1981 -وبموجب فتوى أحلت لهم ذلك- بالهجوم على محل مجوهرات يملكه رجل مسيحى.. ولم يكن الحادث سوى جزء من حملة شرسة بدأت بتوزيع منشورات تطالب بعدم مساواة المسيحيين بالمسلمين، وتحرض على قتلهم واستباحة ممتلكاتهم.. وبلغت الحملة ذروتها فى العام 1989 بإلقاء الزجاجات الحارقة على إحدى الكنائس، بهدف «لفت نظر السلطة إلى حجم الظلم الواقع علينا».. كما أعلن أحد قادة الجماعة الإسلامية بالمنيا آنذاك: سيد فراج!
وكما حدث فى المنيا، واجه الأقباط فى أسيوط «حملة اقتلاع» شملت المدن والقرى وطالت النجوع البعيدة وتفاوتت أدواتها بين النهب والتصفية والاعتداء على الكنائس.. وضاعف من حدة هذه الحملة أقدمية النشاط الدينى فى أسيوط (حيث يضرب فكر الإخوان المسلمين هناك منذ ثلاثينات القرن الماضى) كما أنها الأسبق بين محافظات مصر إلى دخول عصر الجامعات الإقليمية أنشئت جامعتها عام 1957 وجمعت فى كلياتها أعداداً هائلة من شباب الصعيد غير المحصن ضد أى فكر خاصة إذا كان فكراً دينياً متطرفاً! زد على ذلك أن أقباط أسيوط -إلى جانب الكثافة العددية- يتمتعون بحضور قوى فى المجالات التجارية والمهنية.
وهكذا صار أقباط مصر (أصحابها الأصليون) إلى وضع أشبه بـ«رأس الذئب الطائر» فى صراع سلطة، لم يلبث أن انقلب إلى «ثأر» -بالمعنى الحرفى- بين الدولة والجماعات الدينية المتشددة.
على أن نتائج هذا الخلط وإن لم تبلغ يوماً حد تصور «نطاق قبطى» فى الصعيد فهذا لأسباب من حرص الأقباط -أكثر من غيرهم- على المصلحة الوطنية وليس خافياً بالطبع موقف أقباط مصر من محاولات الاستعمار الحديث خلق مشكلة طائفية أو مشكلة أقليات على الرغم من تلويح الدول الاستعمار بورقة الحماية وادعاء التعاطف (وهو ما لم يفطن إليه أو ربما تجاهله مسيحيو الشام على سبيل المثال!)، فى الوقت الذى لا تدخر فيه القوى الإسلامية -المعتدلة والمتشددة على حد سواء- أى جهد لاستجداء دعم دول وحكومات ومؤسسات (وربما أجهزة تخابر) أجنبية! وهكذا أصبح الدين -بنظر أولئك الذين يسعون إلى إقامة دولتهم الإسلامية- مبرراً لخيانة الوطن!
من كتاب «مرة واحد صعيدى
الفصل الثامن «تعريب أم تخريب»