فى الجانب المعتم من رواية حلب

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

تعانى المعضلة السورية من مشكلة تسميات ومصطلحات، منذ اللحظة الأولى لما اصطلح على تسميته بالثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، رغم أنها تمثل ضربة البداية لكنها ظلت جدلية لم ولن تحل عناصرها أبداً، وربما لا يوجد اليوم من يريد العودة إلى تدقيق المصطلح، رغم أن البعض يصفه بمثابة إعلان حرب فى بعض تسمياتها، كذلك هناك روايات مروية عن عودة حلب لسيطرة النظام السورى، بدأت من تسميتها تحرير حلب بواسطة الجيش العربى السورى، انتهاء بمن يتحدث عن سقوط المدينة بالطريقة التى روعت البعض، وما بينهما من تنويعات قد يكون اليوم قد فات أوان الكثير منها، لكن تظل هناك فى الجانب المعتم من الرواية بعض من المخططات والوقائع يمكن رصدها بعيداً عن السقوط فى فخ المسميات الغائمة أو الملتبسة.

بدايتها مع التواطؤ التركى، الذى تمثل فى سحب مظلته ودعمه للتنظيمات المسلحة الموجودة بالمدينة وريفها، بالاتفاق مع الجانب الروسى كمقابل لسماح موازٍ لقوات درع الفرات التركية فى التوغل للوصول لمدينة الباب، هذا الاتفاق الذى نفذ على الأرض وأنتج معطيات جديدة، شكل هزيمة استراتيجية لما سمى بمحور «السعودية، قطر، وافتراضياً بإسناد رئيسى تركى»، يحاول أطراف هذا المحور احتواء بل وإخفاء بعض من آثار الانقلاب التركى، رغم أنه يضرب التحالف فى صميم مكونه، وسيقلب معادلاته حتماً على غير رجعة، فتركيا رغم السماح لها بتوغل يشمل تنفيذ طلعات جوية بالمجال الجوى السورى لقصف مدينة الباب، واتفق بموجبه على صمت روسى وسورى رسمى قيد استخدام افتراضى لسلاح الدفاع الجوى للجيش السورى، إلا أن أثماناً باهظة وجد أردوغان نفسه مطالباً بسدادها سريعاً، الفاتورة بدأت وسط أنقرة برصاص أحد رجال أمنه لصدر السفير الروسى، وامتدت حتى الوصول إلى الميليشيات الحانقة على انقلابه، مما دفعها لحرق جنوده على أسوار مدينة الباب، بنار السعير التى كبدت الجيش التركى 25 قتيلاً و50 مصاباً فى 48 ساعة، والعدد الحقيقى يتجاوز ذلك، وبدأت الاستخبارات التركية فى البحث عن وسطاء لتحرير أسراها لدى داعش الذين يحرقون أحياء، ما لم يفطن له أردوغان فى غمرة صياغته للقفز تجاه المحور الروسى الإيرانى، أنه اختار بملء إرادته أن يدخل غرفة الشياطين الحقيقيين، وأن روسيا وهى تستقبله بالترحاب اللازم، هى مكلفة رسمياً بحل المعضلة التركية على الأرض السورية، عبر ذبح المشروع وقائده واستنزافه للقطرة الأخيرة، بداية من خلعه عن محوره العربى والميليشياتى، نهاية بتدميره نهائياً داخل غرفة الغاز الروسية، خلال الوقت المتبقى حتى تفرغ أمريكا للملف مع إدارتها الجديدة.

فى ذات المنطقة المعتمة كان هناك بعض من الأثمان والفواتير التكتيكية الواجب سدادها، كى تعادل السماح بإقامة مهرجان احتفال الجيش السورى وتصويره بشوارع حلب، أولها السماح لداعش بالتقدم مباشرة لاستعادة مدينة تدمر مرة أخرى من سيطرة النظام، حتى يتم رسم «خط افتراضى» يمتد بطول سوريا فى جانبها الشرقى، يبدأ من دير الزور شمالاً مروراً بتدمر ليصل إلى درعا فى أقصى الجنوب، هذا الشريط الطولى السميك الذى يلاصق الحدود الأردنية لن يسمح لروسيا أو للجيش السورى الاتجاه ناحيته، إلا ربما معارك شكلية من النظام لاستعادة تدمر ثم فقدها ثانية وهكذا، لكن تلك المنطقة التى تبلغ مساحتها فى أقل تقدير 20% من مساحة سوريا، تظل منطقة نفوذ بريطانى كامل وخالص، ثانى تلك الفواتير أن الجيش السورى بعد احتفالاته لن يدخل حلب فعلياً الآن، فالمهمة الأمنية والاستخبارتية داخل مدينة حلب ستنفذها (كتيبة شرطة عسكرية) روسية، وصلت حلب السبت كأول قوات مشاة نظامية روسية تقف على الأرض السورية، ممسكة بالمدينة الأهم فى الشمال السورى، لتلك القوة مهمتان رئيسيتان اتفق عليهما مع الولايات المتحدة وأوروبا، تضمن بموجبهما روسيا حماية مئات الآلاف من المدنيين السوريين «سنة، وأكراد» المقيمين بحلب لم يغادروا، من أى تهور سورى متوقع بارتكاب مذابح أو تطهير مذهبى بحقهم، وقد قدمت روسيا تلك الضمانة، فضلاً عن تعهدها برعاية وتنظيم وصول عادل لمواد الإغاثة والمساعدات لداخل حلب، الوجود الروسى على الأرض تمكنت موسكو من توسعته فى قاعدة طرطوس البحرية، بإنشاءات وتطوير لم تكن تحلم به على ضفاف المتوسط، لكنه يظل تحت مبدأ قابلية سداد الفواتير المؤجلة التى لن تنتهى على الأرض السورية.

تلك الخطوة الأخيرة كونها باهظة الثمن، فتمريرها ربما يكون مقابله مهمة روسية تعادلها فى القيمة، فكما هو مطلوب الذبح الكامل لتركيا، يستلزم أيضاً تقليم أظافر النفوذ الإيرانى فى سوريا لأدنى مستوياته، وهو ما بدأته روسيا بجمعهما فى موسكو لطى صفحات انفلاتهما السابق وضبط إيقاعهما فى المقبل، وهى مهمة «لملمة الفوضى» التى تعهدت بها موسكو لأمريكا وإسرائيل، قبل أن تحط عجلات أول طائرة سوخوى على مدرج قاعدة الحميم، ويبقى فى طيات الثمن طى آخر يتعلق بتدمير ما سمى بـ«معارضة الرياض» وبكل الرموز والسيناريوهات والأدوار القديمة، هذا ستقوم به روسيا فى «مؤتمر أستانا» بكازخستان، حيث ستبدأ بصناعة معطيات وشخوص جديدة استعداداً للدخول بهم جاهزين، مع الإدارة الأمريكية الجديدة فى فبراير المقبل حتى يمكن أن يستظل الترتيب المقبل بمظلة أممية.

ما زال الجانب المعتم مزدحماً بالأحداث والصفقات والأدوار، بل وسيظل، فهناك الكثير مما لم يتم إنجازه بعد، فماذا مثلاً عن مستقبل نظام بشار، وداعش والتنظيمات المسلحة من الذى سيجابهها، مؤقتاً.. يمكن استبدال عنوان المقال بـ«الحرب على الإرهاب» وإعادة قراءته من الشمال إلى اليمين.