تركيا على أبواب الجحيم.. «بوتين» يكسب ولاء «أردوغان» بعد حادث الاغتيال لضمان إنجاز الأهداف فى سوريا

كتب: أحمد الطاهرى

تركيا على أبواب الجحيم.. «بوتين» يكسب ولاء «أردوغان» بعد حادث الاغتيال لضمان إنجاز الأهداف فى سوريا

تركيا على أبواب الجحيم.. «بوتين» يكسب ولاء «أردوغان» بعد حادث الاغتيال لضمان إنجاز الأهداف فى سوريا

1

صراع الأجهزة وصدام مؤسسات الدولة

كان الاختراق الأمنى المرعب الذى تسبّب فى اغتيال السفير الروسى فى أنقرة جزءاً من حلقة رصدها كل باحث وكل مراقب فى منتصف يوليو الماضى عندما خرجت الأنباء لكى تتحدث عن محاولة انقلاب على حكم «أردوغان».

وفعلياً لم يكن مشهد تركيا فى هذا اليوم نمطياً كحال معظم الانقلابات العسكرية، لكنه كان مختلفاً.. صدام مسلح وصريح بين مؤسسات الدولة.. رئيس يحتمى بمرتزقة فى مواجهة المتمردين.. الدولة تنزع الهيبة عن مؤسستها العسكرية وتنكل بالضباط والجنود المتمردين وتنشر صورهم عرايا، كأنها تصفية حسابات، أو هى كذلك بالفعل بين النظام الإخوانى الحاكم والمؤسسة العسكرية التى كانت تحفظ لتركيا النموذج الأتاتوركى.

{long_qoute_1}

هذه الحالة لا تنتهى فى ليلة وضحاها، لكنها تفاعلات تنتج موجات من التمرد بأشكال مختلفة، لا سيما أن تركيا دخلت فى نفق مظلم فى ما يتعلق بالحريات السياسية وحرية الكلمة بعد هذا التاريخ.. وبالتالى فإن «أردوغان»، الذى يسعى بكل ما أوتى من قوة لفرض هيمنته الكاملة والتمكن من كل مفاصل الدولة التركية، فإن عليه أن يستعد لموجة جديدة من التمرد أكثر شراسة خلال العام الجديد.

فى يوليو الماضى، توقع الباحث الأمريكى «جيمس جيفرى» عدداً من السيناريوهات، وقال: حتى الآن، يُعتبر «أردوغان» المنتصر رقم واحد فى أعقاب محاولة الانقلاب.

وفى هذا الإطار، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تساعد فى تفسير منهجية «أردوغان» فى أعقاب الانقلاب.

أولاً: «حركة جولن» منتشرة على نطاق واسع فى صفوف الشرطة والقضاء، وقد تتمتع بالانتشار نفسه فى الأوساط البيروقراطية، إذ من الصعب تحديد مدى انتشار شبكة هذه الحركة التى هى أشبه بطائفة دينية يصعب اختراق صفوفها. بناءً على ذلك، قد تقوم الحكومة بإلقاء القبض على أكبر عدد من الناس المحتجزين. أما البديل الثانى، فهو الذى يقول إن الحركة متورطة فى الانقلاب، لكن الحكومة توسع إطار ردها إلى حد كبير من أجل تطهير كل من يعارض الرئيس. والسيناريو الثالث يقول إن «جولن» لم يشارك فى المخطط، وإن «أردوغان» يعتبر محاولة الانقلاب على أنها مجرد «هدية من السماء» (كما وصفها فى اليوم التالى) تمنحه العذر الذى يحتاجه إلى تطهير البيروقراطية وتوسيع سلطته.

وأياً كان الأمر، فإن استجابة أنقرة ستخلق مشكلات كبيرة فى العلاقات مع الولايات المتحدة. فتركيا هى بالفعل مجتمع فيه أقطاب منقسمة، وهذا الانقسام سيتسع بصورة أكثر. وستؤدى الاضطرابات الداخلية إلى تراجع الوضع الاقتصادى التركى على المدى القصير، وبما أنه يتم التشكيك فى سيادة القانون واستقلال القضاء، فإن الآفاق الاقتصادية على المدى الطويل ستتضرر أيضاً. أضف إلى ذلك أن انتهاكات حقوق الإنسان ستزيد من توتر العلاقات الثنائية بين البلدين، وستجد واشنطن نفسها مضطرة إلى إدانة انتهاكات «أردوغان» للحريات الديمقراطية.

2

المجتمع التركى يزداد انقساماً

فى صحيفة «نيويورك ديلى نيوز»، قدّمت متخصصة الشئون الروسية «آنا بورشفسكايا» تحليلاً حول حادث اغتيال السفير الروسى فى أنقرة، أوضحت من خلاله اللعبة السياسية لرجب طيب أردوغان، وكيفية استفادته من الحادث، وفى المقابل تعظيم الانقسام داخل المجتمع التركى، وكذلك فسّرت رد الفعل الروسى الذى جعل من سوريا هدفاً استراتيجياً، وجاء تحليلها على النحو التالى..

فى التاسع عشر من ديسمبر، اغتيل السفير الروسى لدى تركيا أندريه كارلوف، بعد أن أصابه مسلح بجروح قاتلة خلال إلقائه كلمة فى معرض للصور الفوتوغرافية فى أنقرة. وقد صرخ المسلح باللغة التركية: «لا تنسوا حلب! لا تنسوا سوريا! طالما إخواننا ليسوا آمنين، فلن تتمتعوا بالسلامة». وجاء مقتل «كارلوف» قبل يوم من انعقاد اجتماع رئيسى حول سوريا فى موسكو بين المسئولين الروس والأتراك والإيرانيين.

وقد يكون من المغرى أن نستنتج أن اغتيال السفير الروسى قد يتصاعد ويتحول إلى صراع عالمى. إلا أن ذلك بعيد الاحتمال. وبالأحرى، من المرجح أن يقوم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بتصعيد «الأوضاع العسكرية» فى سوريا، فى حين قد تواجه تركيا تحديات داخلية متنامية. وقد أوضح كل من «بوتين» والرئيس التركى رجب طيب أردوغان على وجه السرعة أنهما يعتبران «الإرهاب» العدو «الرئيسى»، بدلاً من بعضهما البعض.

ووفقاً لوكالة «ريا نوفوستى»، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن روسيا تعتبر عملية الاغتيال عملاً إرهابياً. وأضافت أنه سيتم إجراء تحقيق دقيق، وستتم معاقبة المذنبين، وأن روسيا ستُثير هذه «القضية» فى مجلس الأمن الدولى.

وقد سارع أيضاً مسئولون روس كبار آخرون بوصف عملية الاغتيال كعمل من أعمال الإرهاب، وربط بعضهم ذلك مباشرة «بالأحداث الجارية فى سوريا». ووفقاً لصحيفة البرلمان الرسمية «بارلمينتسكايا جازيتا»، قال عضو مجلس الدوما (البرلمان) الروسى فلاديمير دجاباروف: «جوابنا هو تدمير الإرهابيين فى سوريا».

وأضاف أن روسيا، على عكس الدول الغربية، هى البلد الوحيد الذى يحارب الإرهاب حقاً فى الوقت الراهن. ومن وجهة نظر دجاباروف فشلت تركيا فى حماية الدبلوماسى الروسى، إلا أن تركيا نفسها ضحية للإرهاب، وبالتالى فإنها تحتاج أيضاً إلى الحماية.

وقالت نائبة أخرى فى مجلس الدوما الروسى إيرينا ياروفايا، التى هى زعيمة «حزب روسيا المتحدة» الذى يترأسه «بوتين»، والتى عملت مؤخراً بالاشتراك مع سيناتور آخر على صياغة وإقرار مجموعة قوانين لمكافحة الإرهاب على النمط السوفيتى بأن روسيا هى التى «تفهم وتتفهم» مخاطر الإرهاب ودعت العالم إلى «توحيد (عملياته) فى مجال مكافحة الإرهاب». ومن جهة أخرى، قال رئيس «لجنة الشئون الخارجية» فى مجلس الدوما ليونيد سلوتسكى إن الهجوم كان من الممكن أن يكون «عملية استفزاز» نُفذت من قبل شخص يرغب فى عرقلة العلاقات المستعادة حديثاً بين روسيا وتركيا. وقد أكد ذلك «أردوغان» نفسه يوم الاثنين.

وفى هذا السياق، من الصعب أن نرى كيف من المحتمل أن يتصاعد هذا الوضع إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة. وبدلاً من ذلك، تشير التعليقات من قِبَل المسئولين الروس إلى أنه من المرجّح أن تكون سوريا هى الضحية لهذه المأساة. إلا أن تركيا ستواجه أوقاتاً عصيبة. فالبلاد تتوقع استقطاب ثلاثة ملايين سائح روسى فى عام 2017. لكن من غير المرجّح أن يحدث ذلك فى الوقت الراهن، كما أن الاقتصاد التركى، أخذ يتراجع بالفعل، وسوف يستمر فى معاناته.

من جانبه، قد يكون «أردوغان» قد كسب ولاء «بوتين»، إلا أن مقتل «كارلوف» يُظهر أن الشعب التركى لا يقتنع بذلك بالسهولة نفسها. وهناك الكثير الذى لا نعرفه -كما أن الرجل الذى قتل «كارلوف» لم يُعد قادراً على الكلام، لكن كلماته الأخيرة تشير إلى أنه قام بعمله بدافع من الغضب بسبب «قيام الروس بزعامة بوتين» بقتل المدنيين السنة فى سوريا، وتواطؤ «أردوغان» مع «بوتين».

وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا الحدث المأساوى يؤكد الانقسامات القائمة داخل المجتمع التركى، كما عكس ذلك الانقلاب الأخير فى تركيا. من جانبه يمكن لـ«بوتين» أيضاً أن يستغل هذا الوضع لكسب المزيد من النفوذ على تركيا، لدفعها حتى «إلى اتخاذ مواقف» تكون أقرب إلى موقف روسيا بشأن سوريا.

ويُعتبر قتل الدبلوماسيين الروس أمراً نادراً، لكنه حدث من قبل، ولا بد للكرملين أن يرد على ذلك. ومثال واحد على ذلك ما حدث فى عام 1986، عندما قام عنصر من «حزب الله» باغتيال دبلوماسى سوفيتى واحد واختطف عدة دبلوماسيين آخرين فى بيروت. ورداً على ذلك، قام جهاز المخابرات السوفيتى «كى جى بى» بإخصاء أحد أقارب قيادى فى «حزب الله» كان مضطلعاً فى عملية القتل وأرسلوا إليه أجزاء جسد قريبه. ولا نعرف حتى الآن ما الذى سيكون رد «بوتين»، لكن بإمكاننا أن نتوقع رداً قوياً. وفى غضون ذلك، ستظل سوريا تحترق «وتبقى غير مستقرة».

3

صراع الإسلاميين المنتظر.. مفترق الطرق

ابتعدنا قليلاً عن مشهد 15 يوليو، لكنه قادر على اجتذابنا مجدداً.. فى هذا اليوم بدا واضحاً احتضان تركيا فرقاً إسلامية متطرفة.. مختلفة الجنسيات والأعراق والتوجهات أيضاً.. متطرفون من مصر ومن سوريا ومن العراق، فضلاً عن الدور الذى لعبه نظام «أردوغان» فى تسهيل مهمة «داعش» للسيطرة على شمال سوريا، وهى المهمة التى يبدو أنه سيدفع ثمنها غالياً عند ارتداد «التنظيم» إلى صدر تركيا، فضلاً عن تواصله مع تنظيم داعش فى العراق، ونذكر هنا بفضائح سرقة تركيا للنفط العراقى من خلال التنظيم الإرهابى.

هذه الخريطة الإرهابية ستصبح عبئاً كبيراً على تركيا، وبدأت الإرهاصات مع الأيام الأخيرة من 2016.. تكوين هذه الأنظمة مثل النار، إذا لم تجد ما تأكله أكلت نفسها، وبالتالى تركيا ستكون ميداناً كبيراً للإرهاب، وهو ما يجعلها فى مفترق طرق.

ومفترق طرق هو العنوان الذى تصدّر منتدى معهد واشنطن فى الحديث عن تركيا، وجاء فى سياق آراء حرة.. لكنه حمل رسائل بالغة الأهمية.

وجاء فيه.. قبل أعوام قليلة، كان الاعتزاز والرضا عنوانى الخطاب السياسى فى تركيا. فالنمو الاقتصادى كان قد انتقل بتركيا إلى مصاف أنجح الدول، فيما الإصلاح الإدارى كان يُعدّ البلاد لعضوية عتيدة فى الاتحاد الأوروبى. وتركيا، إحدى الدول المؤسسة لحلف شمالى الأطلسى، كانت على ثقة بموقعها المميز كحليف رئيسى للولايات المتحدة فى المنطقة. والحزب الحاكم فيها، فى خلفيته الدينية وتوجهاته المحافظة، كان قد اعتمد سياسة انفتاح خارجية قوامها الاقتصاد والتواصل، بناءً على مبدأ تجاوز كل الخلافات مع دول الجوار، وسياسة انفتاح داخلية تسعى إلى إنهاء المعضلة الكردية التى سبق أن استنزفت الموارد والطاقات. وعند اندلاع ثورات «الربيع العربى»، تكرّر الحديث عن «النموذج التركى» كصيغة بديلة عمّا كانت ترزح دول المنطقة تحته من استبداد وتخبّط اقتصادى واجتماعى.

إلا أن الأمور اليوم قد تبدّلت. فتوقعات القيادة التركية بشأن المنطقة لم تتحقق، ثم كان الانقلاب الذى هزّ القناعات وبدّد الاطمئنان. وإذ بتركيا تنتقل إلى ما يُحاكى الاستبداد الانطوائى فى الاستفاضة والمبالغة بردود الفعل إزاء الأعداء، الحقيقيون منهم والوهميون، فيما إعادة النظر تجرى بشأن السياسة الخارجية باتجاه عرقلة التطورات السلبية، بدلاً من إطلاق المبادرات الإيجابية.

ما لا شك فيه أن تركيا سوف تصاب بضرر فادح نتيجة العزل المفروض على الكفاءات المتهمة بعلاقة ما مع مجموعة «الخدمة» ذات الولاء لفتح الله جولن، لا سيما أن اتهام هذه المجموعة بالمسئولية عن الانقلاب يبقى إلى اليوم دون الدليل الواضح. فهذا العزل، بالإضافة إلى تجاوزه الحقوق الثابتة والمعايير الدولية، فإنه كذلك يحرم تركيا من طاقات أسهمت إلى أمس قريب فى النجاح الذى تحقق على مختلف المستويات، ويرمى بها، إذ يمنع عنها أى شكل من أشكال الاستمرار بالولاء للوطن، فى أحضان أى حركة معادية للحكم القائم. هو مسار إضرار ذاتى تتدحرج تركيا باتجاهه.

إلا أنه لا فائدة أو جدوى بالمقابل من اعتبار أن ما يجرى يفضح حزب الرئيس رجب طيب أردوغان ويكشف عمّا كان يضمره من نوايا خبيثة، سواءً صُنّفت إسلامية أو عثمانية جديدة أو توسعية تركية. القرائن عديدة بالفعل، فتركيا كانت ممراً للناشطين القطعيين الدوليين فى توافدهم إلى سوريا، وكذلك استفادت من توافدهم هذا لاعتراض توجهات الانفصال أو الحكم الذاتى الكردى عند حدودها الجنوبية، لكن أنقرة كذلك شهدت باستهجان واستغراب التحول فى سياسات حكومة الرئيس أوباما باتجاه التعويل المتصاعد فى سوريا على ما تعتبره تركيا مجرد فرع لحزب العمال الكردستانى، وصولاً إلى اعتبار هذه القوات الكردية السورية الشريك الأول للحكومة الأمريكية على الأرض، فى حين أن واشنطن لم تتجاوب مع الرؤية والتوجهات التركية المقترحة. قد يكون التباعد بين واشنطن وأنقرة مسألة اختلاف فى تسخير الموارد. فرغبة «أردوغان» فى إسقاط النظام بدمشق تتطلب مستوى مرتفعاً من الالتزام لا يتوافق مع نهج الانسحاب من الشرق الأوسط الذى تسير فيه حكومة الرئيس أوباما، والتى وجدت، مع غياب البدائل، ضالتها فى الفصائل الكردية السورية قوة برية لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» تعفيها من إنزال قواتها، وهو أمر هى مصرّة على تجنّبه. كان الأحرى بتركيا أن تجتهد فى توضيح العواقب السيئة، من وجهة نظرها، لهذا التوجه الأمريكى مباشرة، إذ ترى أن ثمن إيجاد الحل الآنى السهل هو المزيد من التعقيد فى منطقة قد تشهد نتيجة إعلاء شأن هذه الفصائل تبديلاً فى تركيبتها القومية والاجتماعية. غير أن خطوط التواصل بين أنقرة وواشنطن ليست على ما يُرام، لتآكل الثقة بين العاصمتين. فتركيا والولايات المتحدة لم تتصرفا فى الموضوع السورى انطلاقاً من تحالفهما، بل اعتمدت كل منهما سياسة موازية للأخرى، متوافقة حيناً، متعارضة أحياناً. والأسوأ أن تفضيل واشنطن للنار الخفيفة فى متابعة الأزمة السورية كان مطابقاً كذلك لرأى بعض الأوساط العسكرية داخل تركيا نفسها. فاليوم، بعد أن أمسى الولاء للقيادة هو معيار الاستمرار فى تركيا ما بعد الانقلاب، فإن المؤسسة العسكرية التركية تنزف كفاءات وخبرات كان لها الدور المهم فى توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة.

والمفارقة هنا أن المحاولة الانقلابية قرّبت من وجهات النظر التركية والأمريكية، دون أن يتبلور هذا التقريب عملياً. ذلك أن تركيا لم تعد قادرة على السعى وراء التصورات الكبيرة، بل عليها وحسب تحجيم مقارباتها بما يتوافق مع مصالحها المباشرة، وتحديداً تذليل المخاطر عند حدودها مع كل من سوريا والعراق. وذلك لا يعنى بالضرورة التخفيف من حدة إدانة أنقرة للنظام الحاكم فى دمشق، إلا أن الأولوية بالنسبة إلى تركيا قد تراجعت إلى حد المطالبة بمنع قيام دويلة كردية فى الشمال الشرقى السورى، وليس إسقاط نظام دمشق. والعمل لهذا الهدف قد يبطن فى إطار مساعدة اللاجئين، أو الإصرار على وحدة الأراضى السورية، أو الدفاع عن حقوق التركمان، أو التنبيه إلى مخاطر تجاهل مصالح الكتلة السكانية العربية السنية، إلا أن الهدف هو دوماً وأولاً منع قيام الدويلة الكردية.

وهذا الهاجس التركى يلقى تأجيجاً من جانب حزب العمال الكردستانى وحلفائه، عبر الأقوال والأفعال. فالإرهاب كما المواجهات مع القوات المسلحة، قد عادت إلى تركيا، فيما تتصاعد الهجمة الإعلامية مع الاستفادة من التأهيل العالمى لوسم تركيا بأنها «الرجل المريض» فى المنطقة، والدولة المقبلة على الانهيار والتفكك.

والمنطق الدفاعى التركى يمتد كذلك إلى العراق، حيث العلاقات الجيدة والمثمرة تستمر بين تركيا وحكومة إقليم كردستان. أما الأولوية التركية فى العراق فهى فى درء العواقب الوخيمة التى سوف تترتب عن تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة، والتى قد تؤدى إلى المزيد من الإضرار بتركيا. فمن شأن الأوضاع فى الموصل، لو تُركت لحالها، أن تتسبب فى أزمة لاجئين وأعباء اقتصادية ومخاطر أمنية جديدة تثقل كاهل تركيا كما هى الأوضاع عند الحدود السورية. وهى هموم ذات أهمية وأحقية، إلا أن القيادة التركية قد تأخرت بالتطرق إليها وأقدمت بشأنها على خطوات مكلفة وغير مثمرة. فالحشد الوطنى الذى تدربه القوات التركية فى العراق هو نسخة مصغّرة للحشد الشعبى الذى توظّفه إيران، إلا أنه فى حين أن طهران تلقى التصديق على دورها والترحيب فى بغداد، فإن أنقرة معرّضة للإحراج نتيجة ما تواجهه من رفض واتهام بالاعتداء على السيادة العراقية.

والواقع أن الأزمات المشتعلة فى سوريا والعراق تدفع بتركيا إلى إيلاء مواجهتها لتنظيم الدولة إلى الصف الثالث، خلف تفكيك مجموعة «خدمة» والتصدى للحراك الكردى. وهذا يُشكل مخاطرة كبيرة، فحسابات قدرة تركيا على احتواء التحدى الذى يشكله تنظيم الدولة قد لا تكون فى مكانها. وتحديداً فإن أسلوب تركيا فى معالجة عواقب المحاولة الانقلابية قد ضاعف من إمكانية تعرّضها للأذى من قِبَل تنظيم الدولة. ذلك أن استهداف الفئات والشرائح المختلفة داخل البلاد على أساس التماهى، لا المسئولية، من المنسجمين مع جماعة فتح الله جولن إلى العلمانيين والأكراد والعلويين، قد يدفع إلى التوهم بأن الأمر تمحيص تتأتى عنه كتلة سنية محافظة موالية لحزب العدالة والتنمية. أما الواقع، فهو أن هذا الفرز يرفع من إمكانية الاستقطاب لصالح القطعية والجهادية. فهذه الإمكانية منخفضة فى حساب مجموع الشعب التركى، لكنها ترتفع نسبياً عند اقتطاع هذه الفئات المستهدفة. ثم أن الاقتطاع يجرى عبر خطاب تعبوى تسطيحى من جانب الحكومة يمكن تجييره بدوره للقطعية. فاللهجة السياسية فى تركيا تزداد حدّة وفئوية، وتفتح المجال أمام الطروحات المتطرفة. والفجوة المفتوحة هنا هى ما أسهم فى دعوة تنظيم الدولة مؤيديه إلى شن حرب شاملة على تركيا. والتجربة التاريخية فى كل من الشرق الأوسط ومنطقة البلقان يجب أن تفيد تركيا أن اعتماد السلطوية والاستبداد يقدم للقيادة وهم القوة والديمومة، لكنه يؤدى فى الواقع إلى التآكل الاجتماعى والفئوية والقطعية. فالسؤال اليوم هل الرئيس رجب طيب أردوغان قادر على تجنّب الوقوع فى فخ الاستبداد؟

4

استفتاء الربيع.. حلم «أردوغان» للبقاء فى السلطة حتى 2029

وسط كل هذه الأزمات يعيش رجب طيب أردوغان على أمل البقاء فى السلطة لمدة 12 عاماً مقبلة.. هو الأمر الذى يفسر حالة الهستيريا التى تسيطر عليه فى مواجهة كل من يختلف معه فى الرأى.. فكل أمله الآن منعقد على تمرير تعديلات دستورية أعدّها حزبه تزيد من صلاحيات منصب الرئيس من جهة وتجعله يتقدم للانتخابات مجدداً دون احتساب الفترة السابقة، وبالتالى يضمن البقاء فى السلطة لمدة 12 عاماً، وهذه التعديلات تتم بموجب تحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية اليمينى.

ومع سعى «أردوغان» لتركيب البيت التركى بشكله الجديد وتفصيله على مقاسه، سعى لاستعادة نقاط ارتكاز لتحركة الإقليمى وكانت إسرائيل والتصالح معها أول اتجاه فى بوصلة «أردوغان»، وبالتوازى مع ذلك فتح صفحة هادئة مع إيران، وهى الصفحة التى تتم برضاء روسى هدفه فى الأساس السيطرة على الوضع فى سوريا.


مواضيع متعلقة