الجيش المصرى والدولة المدنية

حلمى النمنم

حلمى النمنم

كاتب صحفي

لا يتم تقييم الجيوش بقدراتها العسكرية وقوتها القتالية فقط، لكن بدورها الوطنى، وما تقوم به فى الحفاظ على وجود الدولة وقوتها وصيانة هيبتها، وما تقدمه لمجتمعاتها؛ وليس صحيحاً أن الجيوش تكون موجودة ولها أهمية واحتياج وقت الحروب فقط، لكن وجودها يمنع قيام الحروب، ولا يسمح لكثيرين بدخولها أو حتى مجرد التفكير فى ذلك، باختصار، وللمفارقة، لا سلام حقيقياً فى أى بلد دون جيش قوى وقادر، اللهم إلا إذا قرر بلد أو دولة ما أن تستأجر أو تسلم أمرها إلى جيش أجنبى يتولى إقامة قاعدة عسكرية أو أكثر على أرضها، تحمى بها حدودها، بل وجودها ذاته.

الولايات المتحدة لا تواجه تهديداً لحدودها من أى جيش، ولا أظن أن هناك من يفكر فى الاعتداء عليها عسكرياً، ربما تواجه تهديداً من بعض التنظيمات الإرهابية، شأن كثير من الدول، ومع ذلك لدى الولايات المتحدة أقوى جيش على مستوى العالم، ولديها أحدث الأسلحة، وتسعى بانتظام إلى تطوير ما لديها من أسلحة، وزيادة ميزانيتها العسكرية سنوياً.

وحين انهار الاتحاد السوفيتى، تعرضت روسيا لما يشبه الانهيار الاقتصادى، وكذلك الاجتماعى، وساءت أحوالها، خاصة سنوات الرئيس «بوريس يلتسن»، ومع ذلك لم تفكر دولة فى الاعتداء عليها أو غزوها، وظلت حدودها آمنة ومصونة وبقيت الدولة الروسية قائمة ومتماسكة، والسبب فى ذلك ليس حسن أخلاق الآخرين، ولا تطور أفكارهم فقط، بل إدراك الجميع أن روسيا ظلت تحتفظ بجيشها المدرب، الذى يمتلك أسلحة حديثة، فضلاً عن ترسانتها النووية الهائلة ومنظومة الصواريخ المخيفة.

هكذا أهمية الجيوش ودورها وقيمتها..

لذا لم يكن غريباً أن يكون أول قرار تتخذه أى دولة احتلال هو أن تقوم بتسريح الجيش وحله أو إضعافه فى البلد الذى يخضع للاحتلال، ويتولى جيش الاحتلال المهمة بدلاً من الجيش الوطنى، حدث ذلك فى العراق، حين خضع للاحتلال الأمريكى فى مايو 2003، فقد اتخذ «بول بريمر» قراره بحل الجيش العراقى، مما فتح الباب لتكوين الميليشيات الطائفية والتنظيمات الإرهابية، وأصاب الشعب العراقى ودولة العراق بأضرار بالغة، لم يتعافَ منها إلى اليوم.

ولما فشلت الثورة العرابية سنة 1882، بالهزيمة فى «التل الكبير»، وتم الاحتلال البريطانى لمصر، صدر قرار بحل الجيش المصرى، وأعيد تشكيله مباشرة بأعداد قليلة، أقل من 18 ألفاً، وتغيرت مهامه، صار أقرب إلى مهام الأمن الداخلى، حدث شىء من هذا فى معظم الدول التى هُزمت أو خضعت للاحتلال، باختصار الجيش رمز السيادة الأكبر وعنوان الاستقلال.

بهذا المعنى، يجب أن ننظر إلى الجيش المصرى، ونتعامل معه، ذلك أن هذا الجيش، منذ أن تأسس سنة 1811، فى عهد محمد على، وهو مستهدف خارجياً وداخلياً لأسباب ودوافع كثيرة، تتباين من مرحلة إلى أخرى، ومن طرف إلى آخر، تقريباً لم تمر مرحلة أو حقبة دون أن نجد من ينتقد هذا الجيش، بل هناك من يرفضون مجرد وجوده.

وفى كثير من المناطق، يرتبط وجود الدولة ذاته بوجود الجيش، وهذا حال كثير من الدول فى المنطقة وفى العالم، بل إن هناك دولاً بدأت بتأسيس الجيش، ثم أعلن قيامها، مثل دولة إسرائيل، وفى منطقتنا ارتبط ظهور الدولة الوطنية الحديثة بتأسيس الجيش، كما فى مصر وإيران وتركيا، ويمتد الأمر -كذلك- إلى الدول الكبرى خارج المنطقة، ومن يقرأ مذكرات هيلارى كلينتون يجد أنها حين تولت وزارة الخارجية الأمريكية، سنة 2009، راحت تعدد مزايا الولايات المتحدة، وجاء فى المقدمة منها أن بلادها تمتلك أقوى جيش على مستوى العالم، يبلغ عدد الملتحقين والعاملين به 3 ملايين فرد، ولما تم ترشيح دونالد ترامب عن الحزب الجمهورى لرئاسة الولايات المتحدة، الصيف الماضى، كان التساؤل الأبرز بين الأمريكيين، سواء من مسئولين وشخصيات عامة وحزبية أو مواطنين عاديين، هل هذا المرشح يصلح لأن يكون قائداً أعلى للجيش الأمريكى، بكل قوته وما لديه من أسلحة نووية؟!

الجيش المصرى، وفق تلك التصورات، لعب دوراً مهماً، ليس فقط فى الحفاظ على وجود الدولة وصيانة حدود الدولة، بل تم من خلاله وضع اللبنات الأولى للدولة المدنية الحديثة، التى نسعى لاستكمال بنائها، وقد صار لدينا الكثير من أركانها وجوانبها.

حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، كان غير المسلمين فى مصر يدفعون الجزية باعتبارهم «أهل الذمة»، ومن ثم لم يكن التعامل داخل المجتمع قائماً على أساس المواطنة، بل على أساس الديانة، ويحدد الفقه الإسلامى قواعد التعامل فى هذا المجال، إلى أن جاء والى مصر محمد سعيد (باشا) وتولى المسئولية خلفاً للوالى عباس (الأول)، هذا الرجل غُبن حقه فى التاريخ لخطأ كبير ارتكبه وهو منح امتياز حفر قناة السويس لـ«فرديناند ديليسبس»، بشروط مجحفة جداً بمصر والمصريين، مثل تشغيل العمال المصريين فى الحفر «سخرة»، وفى ظروف عمل قاسية؛ غير ذلك المأخذ أو الجرم الكبير، اتخذ محمد سعيد إجراءات إصلاحية وتقدمية كثيرة من بينها أنه أصدر مرسوماً بتجنيد أبناء المصريين جميعاً، بغض النظر عن ديانة أى منهم، أى يستوى فى هذه المسألة المسلم مع المسيحى ومع اليهودى، لأنهم جميعاً مواطنون فى هذا البلد، ويعرف الدارسون أن الذى اعترض على هذا المرسوم بعض أثرياء الأقباط خوفاً على أولادهم من التجنيد، كانت تجربة عودة الجيش المصرى من الشام سنة 1840 قاسية، إذ ترتب عليها أن فقد كثيرون حياتهم فى مرحلة العودة ومنهم من لم يعد ثانية، واستقروا فى بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين) وهكذا كان هناك تخوف من تعميم التجنيد، لكن سعيد باشا لم يتراجع وصمم على تنفيذ المرسوم الذى أصدره، وحدث بالفعل، ومن يومها، وبهذا المرسوم، الذى يبدو بسيطاً وهيّناً، الآن، ومن خلال الجيش المصرى، انتقل غير المسلمين فى مصر من الطائفة والطائفية، أو الذمية الضيقة، التى مضى زمانها وعصرها، إلى فضاء المواطنة الواسع.

هذا مجرد نموذج وحالة من حالات كثيرة، لعب فيها الجيش دوراً بارزاً فى التأسيس للدولة المدنية/الوطنية، وجعل الكثير من القضايا المعقدة تمر بسهولة، ولنا أن نتخيل لو أن حواراً مجتمعياً ونقاشاً ثقافياً وفقهياً تم خوضه فى خمسينيات القرن قبل الماضى حول المواطنة والذمية أو المواطنين وأهل الذمة، بمعنى آخر لو طرح يومها التساؤل: «هل نلغى الذمية أم نبقى عليها؟»، بالتأكيد كان المسئول المالى فى الدولة سيرفض، إذ إن ذلك سيكبد المالية خسارة، وهى قيمة ما يدفعه كل غير المسلمين من أموال مقابل عدم التجنيد ودخول الجيش، ومن المؤكد أنه كان هناك من المتشددين والمتزمتين فى بعض المذاهب الفقهية من سيعترضون بشدة و... و....

باختصار، لولا خطوة التجنيد للجميع، كان التخلص من الذمية صعباً، ولاحتاج إلى وقت طويل، بمرسوم من محمد سعيد (باشا) ومؤسسة منضبطة، هى «الجيش»، أمكن العبور عليها وتجاوزها سريعاً، لتسبق مصر كل بلاد المنطقة فى هذه الجزئية؛ ويتحقق لنا ما بات يطلق عليه «الريادة المصرية».