توابع زلزال التعويم

سحر الجعارة

سحر الجعارة

كاتب صحفي

حالة من الشلل التام تحكم بعض الأسواق، ففى الوقت الذى هلل فيه مجموعة من رجال الأعمال وخبراء الاقتصاد لقرار «تعويم الجنيه».. كان هناك كثير من المستثمرين عاجزين عن تسعير ما ينتجونه!.

نقص حاد فى الدواء، فالأدوية المستوردة تضاعف سعرها وبقيت فى الجمارك، والأدوية المحلية بعضها توقفت المصانع عن إنتاجه حتى يتم إعادة النظر فى «التسعيرة الجبرية» للدواء.

«توابع زلزال التعويم» ما زالت تضرب الأسواق، والطبقة المتوسطة فى حالة ذهول تام كمن يهمس لنفسه: (النار من خلفكم والبحر من أمامكم).. وعليك أن تختار طريقة الموت التى تعجبك!.

إنها طبقة خارج برامج «شبكات الحماية الاجتماعية» التى يتابعها السيد الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، خارج منظومة الدعم العينى أو النقدى، ومعظمها خارج مظلة التأمين الصحى التى تقايض كرامة الإنسان بزجاجة «ميكروكروم».. أو تنزع منه حياته بالإهمال وطوابير الانتظار. لقد كان المجتمع مقسماً، ومحدد المعالم بثلاث طبقات: (الدنيا - الوسطى - العليا)، وتحول الآن إلى سبع طبقات، وهى: (المعدومة - الفقيرة - العائمة - المتوسطة - فوق المتوسطة - الغنية - الثرية) الطبقة «العائمة»، وهى التى تعتبر الطبقة المعضلة، ولم يحدد لها توصيف من أى نوع سواء من علماء الاجتماع أو الاقتصاد حتى الآن، وهو ما جعلنا نصطلح كلمة «عائمة»، لأنها فى بعض الأحيان تغوص فى الفقيرة وفى أحيان أخرى تطفو على المتوسطة.

وتأخذ الحكومة على الشعب المصرى كثرة السيارات والهواتف المحمولة، كدليل على ارتفاع مستوى المعيشة، تماماً كما كان يقال فى عهد «مبارك» أن البلد ملىء بالتكييفات.. ولكن إحصائيات الحكومة نفسها كشفت عدم صدق حجتها، حيث جاء فى البيانات الإحصائية الدقيقة الصادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، أن نسبة من يملكون السيارات لا تتعدى 4٫5% من سكان مصر، كما رصدت الإحصائيات أن الحائزين على التليفون المحمول من الشعب المصرى نسبتهم 8٫62%!!.

وفى القلب ما بين (المجاعة والحكومة) تقف الطبقة المتوسطة والأخرى العائمة، لأنه عليها متطلبات حياتية مكلفة وجبرية.. طبقتان تهتمان بمستوى التعليم باعتباره، (حسب التصنيف القديم)، وسيلة الحراك والترقى الاجتماعى، فتنفق فى المدارس أو الجامعات الخاصة أكثر من نصف دخلها، أو فى الدروس الخصوصية. وهما طبقتان مطالبتان أيضاً بمظهر اجتماعى لائق، وسيارة مناسبة، وسكن معقول، وناد للترفيه عن العائلة.. احذف كل ما تراه «رفاهية» من قائمة متطلبات الحياة الكريمة. ستجد هذه الأسر -على أقل تقدير- تحتاج لتعليم الأولاد والعلاج.. وفى المقابل ستجد الحد الأدنى للرواتب، (الذى قامت ثورة 25 يناير لأجله)، نحو 75 دولاراً فى الشهر!. الطبقة المتوسطة تلقت عدة ضربات متتالية: (ارتفاع أسعار الكهرباء، قانون القيمة المضافة، تعويم الجنيه، تحريك أسعار الوقود.. وقانون الخدمة المدنية).. وأصبحت مهددة بالفناء والسقوط فى سلم الهرم الاجتماعى إلى طبقة الفقراء.. لتأخذ معها كل ما تحمله من قيم ووعى سياسى واجتماعى، وتتوه فى العشوائيات بحثاً عن الرزق.

الحكومة لم تتحسب للخطر الذى يترتب على غياب الطبقة المتوسطة، التى وضعت اللبنة الأولى للنقابات والجمعيات الأهلية والصحافة.. وقادت عملية الحراك السياسى، وتبنت الرؤى الإصلاحية على الصعيدين السياسى والاقتصادى.. وكانت وما زالت تتصدى لحملات التغييب وغسيل الأدمغة لاستقطاب الشباب فى التنظيمات الإرهابية.

وسقوط الطبقة الوسطى هو سقوط للمجتمع دون أدنى مبالغة، ليصبح القادة -فى غيابها- من الفاسدين والمتطرفين وأصحاب السوابق أو الوسائط!.

لاحظ أن الطبقة المتوسطة قد قدمت «الستر» مقابل «الاستقرار»، وهى الطبقة القادرة على إشعال الشارع مجدداً، وليس «الجياع»، لكن الحكومة خرجت تنفى بجرأة مجرد إعادة النظر فى الحد الأدنى للرواتب!.

إنها الطبقة الحالمة صاحبة الطموح وإرادة التغيير، ومفجرة الثورات والاضطرابات، وحاملة شعلة التنوير والحداثة أيضاً، الحداثة والتطور، وهى محور الحركة الوطنية على مر العصور.. فكيف ندوسها تنفيذاً لتعليمات «صندوق النقد الدولى»؟.

أعلم أنه لم تعد هناك خيارات أمام القيادة السياسية، وأن الدول العربية قد أوقفت مساعداتها وحتى بترولها لمصر، وأن «الصندوق هو الحل».. لكن الطبقة المتوسطة هى أول من أضير من انهيار سعر الجنيه، وضعف الاستثمارات، وتراجع السياحة، ورغم ذلك لم تنظر إليها الحكومة.

الطبقة المتوسطة تدفع ثمن الحريات المنقوصة، وتحنيط الدستور أيضاً، وتعانى التخبط السياسى الذى أدى لسجن الشباب، وقانون «تنظيم التظاهر» الذى أصبح سيفاً على رقاب الشباب.

لدينا الآن نحو 50 مليون غاضب ومحبط ومكتئب، هم الكتلة الصلبة فى المجتمع المصرى، التى تذوب بفعل التضخم والفساد وحمى الأسعار.. وتئن فى صمت وتفكر فى البدائل والحلول لمشكلاتها بعد أن اعتادت الاستغناء عن «الدولة» وتوفير السكن والعلاج والتعليم بنفسها.

والحكومة عاجزة عن احتواء مشكلاتها، أو توفير البدائل حتى لا تذوب الطبقة الوسطى، لأن الحكومة بكل أسف لا تعتمد إلا على «الأمن» و«القمع».. لكن حذار إن سادت «الفوضى» وتمردت الطبقة الوسطى على السقوط فى بئر الفقر، فلن يوقفها أحد!!.