الحكومة تغرق فى السيول والصعايدة يدفعون الثمن

مصطفى بكرى

مصطفى بكرى

كاتب صحفي

فى وقت مبكر من الصباح مضيت إلى هناك، إلى موقع الحدث، كان الناس ينتظرون، يراقبون المياه المتدفقة التى جاءت عبر الجبال، يبحثون عن جثث ضحاياهم الذين فُقدوا منذ أكثر من يومين، يعتريهم القلق والحزن والألم والحسرة.

مساء الخميس الماضى، وفى منتصف الليل تماماً، كان هناك أوتوبيسان يمضيان فى رحلتهما العادية، كان الأول مقبلاً من قنا باتجاه القاهرة، بينما كان الآخر مقبلاً من القاهرة إلى قنا. فجأة ودون سابق إنذار، انهارت الحصون، تدفقت المياه بقوة، اقتلعت الطريق الأسفلتى، سقط الأوتوبيسان فى حفرة عميقة، فوجئ الركاب بالمياه تغمر الأوتوبيسين، انطلقت صرخة مدوية إلى عنان السماء، جرفت المياه الكثيرين من الركاب، بعضهم تحرك سريعاً ليعتلى السطح، بينما كانت المياه تمضى سريعاً إلى المجهول وتقتلع الحجر والبشر.

كان عبدالناصر عباس، ابن بلدتى ولاعب النادى المصرى سابقاً، ضمن هؤلاء الركاب، قاوم بشدة، قذفته الأمواج بعنف، ظل يصارع الموت، ويطلب الاستغاثة، رأى الموت بعينيه، قرر أن يقاوم، فجأة وجد نفسه يمسك بحجر كبير، لملم قواه، وبدأ يمضى جانباً، رويداً رويداً، حتى وجد نفسه على شاطئ المياه التى غمرت المكان وراحت تمضى بسرعة تكاد تصل إلى أكثر من ثلاثين كيلومتراً فى الساعة، وصل عبدالناصر إلى بلدتنا فى وقت مبكر من الصباح، بينما كانت الهواتف تدق فى منازل أهلنا تصرخ بكلمة واحدة: أنقذونا، إنهم هؤلاء الذين امتطوا سطح الأوتوبيسين.

<<< 

عندما اقتحمت المياه العاتية جوف الأوتوبيسين أحدثت هلعاً وفزعاً كبيراً. كان حسنى، شاباً فى الثلاثين من عمره، قرر السفر إلى القاهرة ومعه زوجته وابنتاه، حسنى من أبناء قريتى «المعنى»، أعرفه وأعرف والده وأخويه، حسنى كان الابن الأصغر للحاج مبارك الجبلاوى، جلس الأربعة، الأب والزوجة والبنتان «أروى» عام ونصف العام و«أريج» ثلاث سنوات من العمر، بدأ النعاس يزحف إلى الجميع، المياه بدأت بجرف الطفلتين، أمسكتا بيد أمهما، وأمسك حسنى بزوجته، فى دقائق معدودة ووسط الصرخات المدوية، كان الأربعة خارج الأوتوبيس، استطاع الوالد أن ينقذ زوجته، أمسكت بالأوتوبيس، رفض أن يترك ابنتيه تتقاذفهما الأمواج، مضى نحوهما سريعاً، يريد إنقاذهما بأى ثمن، أصوات تحذره، لكنه يمضى بعيداً عنهم، أين أنت يا أروى، أين أنت يا أريج، ضاعت أروى، وضاعت أريج، وفى اليوم التالى عثرت عليهما قوات الإنقاذ جثتين هامدتين، ظل السؤال يتردد: أين حسنى، وأين الآخرون؟

شباب بلدتى زحفوا إلى هناك، يبحثون عن حسنى وعن الضحايا الآخرين، أكثر من 12 جثة فى اليوم الأول، ولكن ليس من بينهم حسنى، وسائل الإعلام راحت تبث الأخبار، مضيت إلى هناك فى وقت متأخر من مساء الجمعة.

<<< 

فى الطريق إلى قنا، مازلت أتذكر السيل الأخير الذى أصاب قريتى فى مقتل، إنه السيل الجارف الذى طفا على المخر وراح يتدفق إلى شوارع بلدتى، فيهدم بيوتها الفقيرة ويحولها إلى خراب فى عام 1996.

يومها مضيت إلى هناك، كان كل شىء قد أصبح كومة من التراب، بيوت الفقراء انهارت، وأخذت معها حاجياتهم، أصبحوا فى العراء، تدخّل الجيش كالعادة، أقام الخيام، شعرت ساعتها أننا أصبحنا شعباً من اللاجئين، ننتظر الطعام، ونبحث عن مكان يلملم أجساد المشردين.

فى هذا الوقت عجزت الحكومة أيضاً عن المواجهة، أصبح أهلنا ينتظرون الفرج كل يوم، فى هذا الوقت كان اللواء صفوت شاكر، محافظ قنا، واللواء سعد الجمال، مدير الأمن، وأنا نمضى معاً كل صباح، نطمئن على أحوال الناس، ولولا حديث جرى بينى وبين رجل الأعمال د. إبراهيم كامل فى حضور د. أسامة الباز تمخض عن جمع مبالغ قُدمت للمحافظة، وقامت ببناء قريتى من جديد، لبقينا على حالنا حتى اليوم.

كانت الصورة ماثلة أمام عينى، سألت نفسى: إلى متى سيدفع الصعيد ثمن جريمة لم يرتكبها؟! ولماذا لا تفكر الحكومات بشكل مختلف لإنقاذ هؤلاء الغلابة من المخاطر والفقر والجوع والموت.

أخطرنى الضابط المسئول أن علىّ أن أتوقف عند الكيلو «8» فى طريق «قنا سوهاج». المياه تغمر المنطقة، والطريق قطعته السيول، وسرعة المياه المتدفقة لا تزال مستمرة، ومنسوب المياه وصل إلى نحو 50 سم من الأرض.

وصل اللواء عبدالحميد الهجان، محافظ قنا، دخل فى حوار مع الحاضرين، اشتكى الناس، قالوا لماذا لم يتم إغلاق الطريق، وهناك إنذارات من الأرصاد الجوية صدرت منذ نحو شهر تقريباً؟ وقال المحافظ: السيول المعتادة تأتينا عن طريق البحر الأحمر «طريق قنا سفاجا»، ولكنها فاجأتنا هذا العام لتأتى من طريق «قنا سوهاج» الصحراوى، الناس تقترح الحلول للمستقبل، والمحافظ يسمع ويعد برفع الأمر إلى كبار المسئولين.

بعد قليل جاءنى صوت ابن عمى «حربى همام»: لقد وجدنا جثة حسنى الجبلاوى، ووجدنا جثة أخرى هى للشاب مصطفى، وهو أيضاً من أبناء منطقة الجبلاو المجاورة لقريتى.

استطاع شباب المعنى وشباب الجبلاو أن يعثروا على الجثتين، وبعد قليل كان الشباب يمضون بهما إلى مستشفى قنا العام، مضينا لاستخراج التصاريح، بينما كان مئات البشر قد سبقونا إلى هناك انتظاراً لوصول الجثمانين.

حملنا جثمان حسنى من المستشفى إلى مسجد الشيخ محمد غرب البلدة، كانت النساء تنتظر، مئات النساء اتشحن بالسواد، الصرخات لا تتوقف، يذكّرنى هذا المشهد بوفاة أمى، ومن قبلها أبى، نفس الحشود، التكاتف رجالاً ونساء، الدموع الصادقة، يعلو صوت شقيقه محمد مبارك: يا خسارة يا خوى، تلاتة من بيتنا يا حسنى، اقتربت منه، احتضنته، لكن آهاته وآلامه لا تتوقف.

أدينا الصلاة فى المسجد على الجثمان الطاهر، حملناه على الأكتاف ومضينا سيراً على الأقدام لأكثر من اثنين كيلومتر، قاصدين المقابر التى تقع فى آخر الجزء الغربى من البلدة، فى كل شارع كنا نسمع الصرخات: مع السلامة يا حسنى، روح لبناتك مستنينك يا ولدى، أشعر أن شوارع بلدتى تحولت إلى بحور من الدموع.

آلاف البشر، الشباب والرجال يمضون إلى المقابر، الطابور طويل، لا تكاد ترى أوله من آخره، هذه هى بلدتى المكلومة، وناسى الذين يعيشون فى دمى، هنا ذكرياتى وتاريخى، إنها بلدتى التى يطاردنى طيفها فى القاهرة.

قرأت الفاتحة لأبى وأمى، مضيت أنا وأخى أحمد، استعداداً للعزاء الذى يبدأ مبكراً فى بلدتى، ويستمر لثلاثة أيام متتالية، وبعدها يبقى الديوان مفتوحاً لتلقى العزاء لأكثر من خمسة عشر يوماً.

فى التاسعة من مساء ذات اليوم مضيت مع المحافظ وكبار المسئولين ومعنا النائب الجميل محمود عبدالسلام الضبع إلى الجبلاو، بلدته، لنقدم العزاء فى الشهيد الثانى مصطفى.

كان محمود عبدالسلام قد مضى إلى مكان الأحداث منذ الساعات الأولى، ظل مع الناس، لم يتركهم ولو للحظة واحدة، وفى الجبلاو أدينا العزاء، ومضينا كل إلى حال سبيله، لكن الجرح يبقى غائراً.

حتى مساء السبت، أمس الأول، كان عدد الذين استُخرجت جثثهم يزيد على العشرين شهيداً، أما الجرح الدامى فكان فى منطقة رأس غارب بالبحر الأحمر، الناس يستغيثون، يصرخون، المياه تحاصرهم من كل اتجاه، لا ماء للشرب ولا كهرباء، لا غذاء ولا كساء، استغاثات تأتى عبر الفضائيات والأسر، الثعابين والعقارب تزحف، الناس محاصرون فى البيوت بعد أن وصل عمق المياه لأكثر من متر ونصف المتر، عندما ذهب رئيس الوزراء إلى هناك، الناس قطعوا الطريق عليه، لم يسمحوا له بأن يكمل جولته، إنه الغضب الكامن فى النفوس منذ زمن طويل.

أعود إلى القاهرة مجدداً، وأسأل نفسى: إلى متى يبقى حال الصعايدة هكذا، مشاكل وأزمات، تهميش دائم ومستمر، أدرك أننا أمام مرحلة جديدة، وأن الأمل يعود من جديد، أعرف أن الصعايدة وطنيون بالفطرة، وحريصون على الوطن رغم الآلام، ولكنهم يعيشون الفقر والبطالة، المشاكل تتكالب، لكننا نبقى رافعين الراية، راية الوطن، التى رفعها الملك مينا منذ قرون طويلة من الزمان.

إنها مصر العظيمة بأبنائها، مصر التى تصدّت، مصر التى أشعّت نوراً على البشرية، وصعيدها مهد الحضارة والتاريخ سوف يظل قوياً، صامداً، مدافعاً عن كيان الدولة، راضياً بالقليل، ولكن فقط نريد منكم نظرة إلى الواقع، ابحثوا عن طريق للخروج من هذا الواقع بعيداً عن الكلمات المعسولة، والوعود المستمرة التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.