الاعتذار واجب

حسنا فعلت جماعة الإخوان المسلمين بتقنين أوضاعها كجمعية أهلية يقتصر نشاطها على التنمية والدعوة الدينية بشكل منفصل تماما عن حزب الحرية والعدالة الذى يمارس العمل السياسى من خلفية إسلامية لأن الدعاوى إلى حل الجماعة تتعارض مع قيم الديمقراطية ومع الوقائع على الأرض التى تؤكد أنها أكبر جماعة سياسية لها دورها فى العمل الاجتماعى والسياسى، ولا يمكن إلغاؤها بجرة قلم، وفى نفس الوقت فإنه من واجب جماعة الإخوان المسلمين أن تقدم اعتذارا صريحاً للشعب المصرى، ليس عن اعتداء بعض شبابهم على الصحفيين والإعلاميين والفنانين أمام مقر مكتب الإرشاد، بل عما فعلوه بمصر بعد ثورة 25 يناير؛ فما نعيشه الآن من أزمة شاملة وانقسام عميق يعود بالدرجة الأولى إلى أن الجماعة أخذت البلاد والثورة إلى مسار مختلف عن المسار الصحيح الذى كان يتعين أن تتخذه الثورة منذ فبراير 2011 بعد خلع حسنى مبارك مباشرة. وقد فضلت الجماعة فى هذا الوقت مصلحتها على المصالح العليا للشعب المصرى عندما قررت الدعوة إلى إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً فى حين أنه كان من الطبيعى أن يوضع الدستور أولاً وأن تمر البلاد بمرحلة انتقالية يتم خلالها إطلاق الحريات وتصفية مؤسسات النظام القديم وحل المشكلات الناجمة عن الثورة وعلى رأسها معالجة الانفلات الأمنى بإعادة هيكلة أجهزة الأمن للقيام بدورها كاملاً فى تحقيق أمن المجتمع فى إطار احترام حقوق الإنسان، وتوفير الإمكانيات اللازمة لإدارة الاقتصاد المصرى بما يلبى احتياجات المصريين، وهناك ارتباط وثيق بين استعادة الأمن وقدرة الاقتصاد وعلى تحقيق مطالب المصريين حيث يرتبط بهذه العلاقة الاستثمار والسياحة، فى هذا السياق تشكل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور بالانتخاب المباشر من الشعب، وبعد الانتهاء من صياغة مشروع الدستور يطرح للنقاش العام فى المجتمع فترة كافية لتحقيق التوافق الوطنى العام حوله ثم يتم الاستفتاء عليه ويبدأ تطبيقه بانتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية والمجالس الشعبية المحلية، وتنتهى بذلك المرحلة الانتقالية، ويتم استكمال مقومات التحول الديمقراطى بإصدار القوانين المكملة للدستور. ولكن جماعة الإخوان المسلمين كان لها رأى آخر حيث قدرت أنها الجماعة السياسية الأكبر التى تملك قدرات انتخابية عالية وقدرة على حشد الأصوات وإمكانيات مالية هائلة وخدمات اجتماعية كبيرة تقدمها للمواطنين الفقراء والمهمشين، وأنه إذا أجريت الانتخابات البرلمانية أولاً فإنها ستتمكن من تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور على النحو الذى تريده بالنص على أن مجلس الشعب الجديد يختص بتشكيل هذه الجمعية مع مجلس الشورى، وبذلك تتمكن من التحكم فى صياغة الدستور الجديد. وأصرت الجماعة وسايرها فى هذا المجلس الأعلى للقوات المسلحة حرصا على استقرار البلاد لأن اتخاذ مسار مختلف عما تريده الجماعة سيدخل البلاد فى أزمة عندما تتحول الجماعة إلى المعارضة. ودخلت مصر بالاستفتاء على التعديلات الدستورية نفقاً مظلماً اصطدمت فيه القوى السياسية ببعضها وحاول شباب الثورة تدارك الأمر فكانت أحداث «محمد محمود» و«ماسبيرو» و«مجلس الوزراء» و«جمعة قندهار»، حيث سقط شهداء جدد وأصيب الآلاف بلا مبرر اللهم إلا رغبة الجماعة فى الاستئثار بالسلطة، وتعددت الأزمات من حل مجلس الشعب بحكم المحكمة الدستورية وإصرار الجماعة على إعادته بقرار من رئيس الجمهورية ثم التسليم بحله، وإصدار الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012 وإصدار دستور لا يحظى بالتوافق العام، وتعميق الانقسام بمقاطعة جبهة الإنقاذ لانتخابات مجلس النواب ما لم تنته الأوضاع غير الديمقراطية وتتوافر شروط كاملة لنزاهة الانتخابات. لا يدرى أحد إلى أين تقودنا الأحداث بعد إصرار الجماعة على عدم الاعتذار للإعلاميين عن الاعتداء عليهم، واستمرار حالة الاحتقان السياسى والانقسام فى المجتمع بينما أحوالنا الاقتصادية تزداد سوءا والانفلات الأمنى يتواصل. الأزمة مستمرة وتتصاعد حدتها ويتسع نطاقها لتشمل مجالات سياسية واقتصادية وأمنية ما لم تعترف الجماعة أنها أخطأت فى حق مصر وشعبها عندما أصرت على أن تكون الانتخابات أولاً، وعندما أعطت الأولوية من خلال رئيس الجمهورية وأعضائها من الوزراء والمحافظين وكبار المسئولين فى الدولة للتمكين لنفسها فى مفاصل الدولة ضاربة عرض الحائط بمصالح المصريين. لقد صبرت الجماعة طويلاً وقدمت تضحيات هائلة وقطفت ثمار ذلك بالوصول إلى السلطة لكنها غالباً لن تنعم بها طويلاً وربما تخسر كل شىء ما لم تعترف بأخطائها وتعدل عن سلوكها وتعتذر للشعب المصرى عن المتاهة التى أدخلتنا فيها ويبادر رئيس الجمهورية إلى تبنى سياسات جديدة تستعيد حالة الوفاق الوطنى.