الاقتصاد غير الرسمى.. من هنا تبدأ «ثورة الجياع»

الاقتصاد غير الرسمى.. من هنا تبدأ «ثورة الجياع»
وبينما تبحث الحكومة ليلاً ونهاراً عن موارد لخزينتها التى تخطى العجز بها حاجز 170 مليار جنيه، وبينما تلهث أيضاً خلف صندوق النقد الدولى من أجل القرض، يبرز دور الاقتصاد الموازى أو «غير الرسمى» على السطح كطوق نجاة يراه البعض بديلاً منطقياً وضرورياً لزيادة موارد الدولة والاستغناء عن فكرة الاقتراض الخارجى.
يمثل الاقتصاد غير الرسمى فى مصر ما نسبته أكثر من 80%، وتقدّر دراسة حديثة لاتحاد الصناعات حجم نشاط الاقتصاد الموازى بحوالى تريليون جنيه، بينما تقدّر دراسة دولية أجراها الخبير الاقتصادى العالمى هرناندو دى سوتو، هذا الحجم بـ2.6 تريليون جنيه مصرى، فيما تقدر قيمة الضرائب التى يمكن تحصيلها حال تقنين أوضاع المنشآت غير الرسمية بـ150 ملياراً، أى ما يقرب من العجز الحالى بالموازنة العامة للدولة، وتقدّر دراسة اتحاد الصناعات، الاقتصاد غير الرسمى فى مجال الصناعة بنحو 40 ألف مصنع غير قانونى، تمارس نشاطها فى أماكن غير مرخص بها، أو تعمل فى إطار بعيد عن إجراءات الأمن الصناعى أو شروط السلامة والصحة.[Image_2]
الباعة الجائلون والمصانع غير المرخّصة أو مصانع «بير السلم»، والعقارات غير المسجّلة جميعها تمثل عناصر أساسية لاقتصاد خارج سيطرة الدولة، أصبح أبعد ما يكون عن تلك السيطرة بعد الثورة، وربما لا يعلم كثيرون أن هذا الاقتصاد 9.6 مليون عامل مقابل 6 ملايين توظفهم الحكومة، ومثلهم تقريباً فى القطاع الخاص، وهو ما دعا الحكومة إلى الالتفات إلى الأهمية القصوى لدمج المنشآت غير الرسمية.
مؤخراً، وفى محاولة منها لاتخاذ خطوات جادة لتشجيع أصحاب المنشآت غير الرسمية فى الاندماج مع الاقتصاد الرسمى، قامت الحكومة بالإعلان عن البرنامج القومى لضم القطاع غير الرسمى، وهو البرنامج الذى تضمّن إجراءات، من بينها تيسير إجراءات تأسيس الشركات، وسرعة إصدار تراخيص مزاولة الأعمال، والأهم من ذلك إقرار عدد من الإعفاءات والتيسيرات الضريبية والإجرائية لأصحاب الأعمال فى القطاع غير الرسمى.
«هرناندو دى سوتو» أحد خبراء الاقتصاد والتنمية العالميين، أجرى دراسة تفصيلية عن القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد المصرى، كشف العديد من المفاجآت، لعل أبرزها أن حجم الاقتصاد غير الرسمى فى مصر يوازى إجمالى الاستثمارات الأجنبية التى تم ضخّها فى مصر منذ خروج الحملة الفرنسية وحتى الآن.
يرى «دى سوتو» الذى أجرى دراسة معمّقة عن الاقتصاد غير الرسمى فى تونس ومصر، أن ظاهرة «بوعزيزى» قد تتكرر فى دول كثيرة من العالم العربى بسبب «تهميش الفقراء» وعدم تمكينهم من خلال دمج الشريحة الأكبر منهم التى تعمل فى مناخ غير رسمى فى النشاط الاقتصادى الرسمى.
السؤال الآن: هل ستكون تصريحات الحكومة بشأن دمج الاقتصاد غير الرسمى محل التنفيذ الفعلى، أم حبراً على ورق يؤدى بنا إلى ثورة أخرى يقودها 5 ملايين «بوعزيزى» آخر؟!
يقلل الخبراء الاقتصاديون من التصريحات الحكومية، مؤكدين أن الحكومات المتعاقبة قبل وبعد الثورة «تتشدّق» برسم السياسات والأطر لضم القطاع غير الرسمى الاقتصادى والخدمى والعمالى دون تطبيق فعلى على أرض الواقع، يجذب العاملين بالاقتصاد غير الرسمى للدخول تحت المظلة الشرعية لاقتصاد الدولة.[Quote_1]
يؤكد عدد من خبراء الاقتصاد أن العاملين فى القطاع غير الرسمى هم الأكثر تضرُّراً من الأحداث والتداعيات الاقتصادية السلبية التى أعقبت ثورة يناير. وطالب خبراء الاقتصاد بسرعة وضع الحلول اللازمة للحد من نمو الاقتصاد غير الرسمى فى مصر ووضع الآليات الكفيلة بضم هذا القطاع والعاملين فيه إلى الاقتصاد الرسمى للدولة.
يقدّر حجم هذا القطاع بنحو 34% من حجم النشاط الاقتصادى الرسمى، ويتجاوز عدد العاملين فيه 8 ملايين عامل، فيما تتجاوز نسبة المنشآت الصغيرة والمتوسطة غير المسجلة رسمياً 84% من حجم المنشآت الإجمالى.
اعترف الدكتور سمير رضوان وزير المالية الأسبق، بأن الاقتصاد غير الرسمى كان -ولا يزال- يمثل أحد أهم العناصر الاقتصادية فى مصر، سواء من خلال تعاملاته مع المؤسسات والكيانات الاقتصادية للدولة أو من خلال ارتباطه الوثيق باقتصاديات الأفراد والدورة المالية والاستهلاكية والمعيشية للمواطنين ومختلف الأسر المصرية، مما يجعل من تذليل كل العقبات التى تواجهه ضرورة من أجل تيسير عملية ضمه إلى نشاط الاقتصاد الرسمى، بما يساعده على التوسُّع فى نشاطه فى إطار من الشرعية والشكل القانونى الذى لا يزال يفتقده، والذى يحفظ له كامل حقوقه المادية والأدبية، كما يحفظ للدولة حقوقها القانونية والضريبية.[Quote_2]
وأشار إلى أن العمالة غير المنتظمة تقدر بحوالى 50% من إجمالى القوى العاملة المنتظمة فى مصر، حيث تعمل فى مختلف القطاعات بداية من قطاع المقاولات والبناء ومختلف القطاعات الخدمية، مروراً بالقطاعات الصناعية والتجارية، وانتهاء بالعاملين فى المناجم والمحاجر.
وأضاف «رضوان» أنه على الدولة تشجيع أصحاب مشروعات القطاع غير الرسمى للدخول فى الاقتصاد الرسمى، بما يستهدف رفع مستوى هذه المنشآت العاملة بالقطاع غير الرسمى وتحسين جودة ومعدّلات إنتاجها، فضلاً عن تحسين مستوى معيشة العاملين بها، الذين يقدّر عددهم بما يقرب من 8 ملايين عامل يعملون بمليون ونصف المليون منشأة غير رسمية.
وأشار الدكتور عبدالمنعم السيد، رئيس مركز القاهرة للدراسات السياسية والاقتصادية، إلى أن الاقتصاد غير الرسمى يحتوى على ما يقرب من 40% من حجم العمالة الحقيقية بالبلاد، لافتاً إلى أن الكثير من هذه المشروعات والصناعات ذات نشاط صغير وتحتوى على الكثير من العمالة الماهرة، البعض يحتاج إلى العديد من البرامج التدريبية، حتى تكون مؤهّلة للاندماج فى المنظومة الرسمية للدولة.[Image_3]
وأشار إلى أن هناك العديد من المزايا التى ستحصل عليها الدول، جراء دمج هذه الصناعات فى منظومتها، منها توفير مدخلات عالية الجودة للإنتاج وتأهيل العمالة الفنية الماهرة وصقلها بالتدريب، للاستفادة منها فى كل القطاعات، بجانب تقليل الاعتماد على الاستيراد الخارجى، خصوصاً مع توفير الكثير من المنتجات التى يحتاج إليها السوق ومجتمع الأعمال.
أضاف السيد أن الحكومة ستستفيد من هذه الصناعات من خلال تحصيل ضرائب ورسوم تزيد معها حصيلة الدولة وتسهم فى خفض العجز فى ميزان الموازنة العامة، بجانب إخضاع المنتجات غير المطابقة للرقابة ومصادرتها، وكذلك تحسين جودة المنتجات المصنّعة، وزيادة الفرص التصديرية والمنافسة مع الدول الأخرى.
وأضاف أنه على الدولة أن تقدّم مبادرات لتشجيع أصحاب هذه الأعمال والمشروعات الصغيرة للانضمام إلى كيان الدولة الاقتصادى وإعطائها مزايا عديدة، منها إعفاء ضريبى على الصادرات لمدة زمنية محدّدة وتحسين جودة المنتجات المعروضة وتقليل الاستيراد، مما يسهم فى إعطاء فرص المزاولة الرسمية فى السوق، دون ملاحقات أو مصادرات.
على الجانب الآخر، دافع ممدوح عمر رئيس مصلحة الضرائب المصرية، عن الإجراءات والسياسات الحكومية بأن الدولة تبذل ما فى وسعها لتشجيع العاملين بالاقتصاد غير الرسمى للدخول إلى المظلة الشرعية للاقتصاد القومى للدولة، إلا أن الشعب ما زال يخاف من الاقتراب من الحكومة.[Quote_3]
وأضاف أن هناك ثقافة عامة راسخة لدى جموع العاملين بالاقتصاد غير الرسمى بأن الحكومة «عاوزة تاخد قوتنا وقوت عيالنا» على حد وصفه، ولا يلتفتون إلى ما يجنيه المواطن من دفعه للضرائب من خدمات عامة وصحية وتأمين اجتماعى لن يتحسن فى ظل هذا التخوّف المتزايد من الدولة.
وكشف «عمر» أن حجم الحصيلة التى يمكن تحصيلها من الاقتصاد غير الرسمى تقدّر بضعف الحصيلة الضريبية السنوية الحالية والتى تقدر بـ200 مليار جنيه.
واعترف بأن ضم هذا القطاع العريض من الاقتصاد غير الرسمى إلى الدولة يحتاج إلى 10 سنوات من الإجراءات والعمل المستمر لجذب العاملين بهذا القطاع إلى نطاق الاقتصاد القومى.