قاضى قضاة الحاكم «أعظم رجل منحط»

من بين كل الشخصيات المؤثرة فى التاريخ الإنسانى منذ بدايات عصر النهضة، لم أعثر على شخص يصلح أن تكون حكايته عبرة للمستشار أحمد مكى، وزير العدل، وشقيقه المستشار محمود مكى، ومعهما النائب العام المستشار طلعت عبدالله، مثل شخص «فرانسيس بيكون 1561 - 1626» الذى احتار المؤرخون فى العثور على وصف مناسب له لأكثر من مائتى عام، حتى اهتدى كاتب بريطانى مغمور إلى اصطياده فى جملة واحدة أصبحت تعريفاً جامعاً مانعاً لهذا العقل الجبار الذى تدين له الإنسانية بتأسيس المذهب التجريبى فى العلوم والمعرفة.. عندما وصفه بقوله: «إن فرانسيس بيكون هو أعظم رجل مُنحَط عرفته البشرية»! ولعلها صدفة عبقرية جاد بها التاريخ فى سخاء بالغ، أن يجمع فرانسيس بيكون خلال عمله القضائى والتنفيذى فى خدمة جيمس الأول، ملك إنجلترا، بين المناصب التى يشغلها كل من المستشار طلعت عبدالله والمستشار أحمد مكى وتلك التى كان يشغلها المستشار محمود مكى، وأن يرتكب «بيكون» عدداً من المخالفات خلال ثمانى سنوات شغل فيها المناصب الثلاثة، أقل كثيراً فى تأثيرها المدمر مما ارتكبه المستشارون المصريون الثلاثة فى عدة شهور، ورغم ذلك لاحقت مخالفات «بيكون» صاحبها قبل رحيله بخمس سنوات وحتى الآن -حوالى 390 سنة- ولا يكاد كتاب واحد يتناول عصر النهضة الأوروبية، إلا ويقف صاحبه مذهولاً أمام عظمة هذا العقل الجبار.. ثم لا يلبث المؤرخ نفسه أن يعتريه ذهول أشد، عندما يكشف النقاب عن الوجه الآخر لهذا العقل الجبار، ولا يجد مفراً من أن يتفق فى النهاية مع «ويل ديورانت» صاحب «موسوعة قصة الحضارة» الذى دافع كثيراً عن «بيكون» ولكنه، إعمالاً للحياد، اضطر إلى أن يلخص حياته وأعماله بجملته الشهيرة: «لقد حَظِىَ بيكون بكل شىء.. إلا الشرف»! ولكن ما الذى فعله هذا الرجل الفذ لكى تطارده اللعنات عبر القرون ولكى يصر التاريخ على ذكر عظمته مقرونة دائماً بالخسة والانحطاط وانعدام الشرف؟. القصة -وأتمنى أن يقرأها الأخوان مكى والنائب العام طلعت عبدالله- أن فرانسيس بيكون وُلد فى جو عائلى مفعم بشئون الدولة، فقد كان والده حامل الختم العظيم لملك إنجلترا، ولهذا كان طبيعياً أن يطمح إلى وظيفة سياسية مرموقة تتناسب مع مكانة عائلته، وقطع شوطاً معقولاً نحو تحقيق طموحه بدخوله البرلمان فى سن الثالثة والعشرين ثم بتعيينه مسستشاراً لأحد اللوردات، وخلال وجوده فى البرلمان لمدة 19 عاماً قدَّم عشرات الأدلة على ولائه المطلق للملك، كان أهمها تخليه الفورى عن اللورد الذى كان يعمل له مستشاراً قانونياً بمجرد أن عزله الملك، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وساعد الملك فى إقامة دعوى قضائية على اللورد ومحاكمته بتهمة الخيانة العظمى، وهو الأمر الذى دفع بكاتب من معاصريه إلى وضع كتاب كامل عن قضية هذا اللورد، وصف فيه فرانسيس بيكون بأنه «مسخ من الغدر والعقوق»، ليس لأنه خان اللورد الذى عينه مستشاراً قانونياً، ولكن لأنه وضع عبقريته القانونية فى خدمة ملك يحتقر القانون ويستخدمه للتنكيل بخصومه.. باختصار استحق فرانسيس بيكون آنذاك لقب «المسخ» لأنه تجرد من ضمير القاضى. (أفتح هنا قوساً لأستعيد معكم كارثة حصار أنصار الرئيس محمد مرسى للمحكمة الدستورية.. ومنع قضاتها من دخولها وتوجيه أحط السباب لعدد من قضاتها على مرأى ومسمع من العالم كله، دون كلمة واحدة تشير إلى رفض أو إدانة من مكى وزير العدل أو مكى نائب الرئيس، وكلاهما من كبار القضاة وأكثرهم حديثاً عن ضمير القاضى الذى لا يغدر به إلا المسوخ). الخطيئة الثانية التى ارتكبها فرانسيس بيكون واعتبرها «ويل ديورانت» غاية فى الشر، هى النظرية السياسية التى صاغها هذا الرجل ليبرر للملك شن الحروب على الإمارات أو الممالك الأخرى والاستيلاء على مناطق شاسعة لم تكن تخضع لسلطته، وكان العرف السياسى قد استقر آنذاك على أنه ليس من العدل شن الحرب إلا إذا سبقها وقوع الضرر، وإذا بـ«فرانسيس بيكون» يستخدم براعته فى تدشين نظرية سياسية جديدة تذهب إلى أن الخوف من خطر محدق، ولو لم تحدث أية أضرار، سبب مشروع للحرب.. والثابت أن هذه النظرية قد تحولت منذ هذا التاريخ وإلى يومنا هذا إلى آلة جهنمية لاستدعاء الخوف أو تحضيره أو تلفيق وجوده، للاستناد إليه فى شن الحرب على الدول أو الخصوم السياسيين، وقد استخدم الرئيس محمد مرسى هذه النظرية ذاتها عندما أصدر إعلانه الدستورى لتحصين قراراته وعزل النائب العام ومنع المحكمة الدستورية من نظر الطعون على الجمعية التأسيسية لوضع الدستور ومجلس الشورى، ثم استخدمها للفتك بالثوار أمام «الاتحادية» وكان الحديث عن وجود مؤامرة لحل التأسيسية والمجلس ومؤامرة لخطف الرئيس هو المبرر لتدمير القانون ومؤسسات العدالة فى مصر، وتحويل المجنى عليهم إلى جناة، وإعاقة العدالة عن الوصول إلى ميليشيات الإخوان التى قتلت واختطفت واحتجزت وعذبت الثوار داخل وأمام قصر الاتحادية.. وقد حدث كل هذا الانحطاط السياسى والأخلاقى وأحمد مكى وزير للعدل وشقيقه نائب للرئيس وطلعت عبدالله نائب عام. لفتت وضاعة فرانسيس بيكون وانعدام ضميره السياسى والقضائى نظر الملك جيمس الأول فأصدر قراراً بتعيينه مساعداً للنائب العام فاستغل «بيكون» وظيفته فى إصدار أحكام قضائية على الصورة التى يرغب فيها الملك، وفى عام 1613 عيَّنه الملك نائباً عاماً وبعد ثلاث سنوات عيَّنه عضواً بمجلس شورى الملك، وفى عام 1617 أصبح «بيكون» حاملاً لأختام الملك، وفى عام 1618 أصبح قاضى قضاة إنجلترا، وعندما سافر جيمس الأول إلى أسكتلندا أوكل إلى «بيكون» مهمة حكم البلاد وترك له مهمة استقبال السفراء والوفود، وخلال هذه السنوات دافع «بيكون» عن أشد احتكارات الملك وأقاربه تعسفاً وظلماً ووقف بعقله الجبار خلف كل القوانين التى مكنت الملك من إخراس الخصوم وحبسهم والاستيلاء على أملاكهم، ووقف قاضى القضاة ونائب الملك حجر عثرة أمام حصول المواطنين على حقوقهم عن طريق التقاضى، فقد كان يقبل الرشاوى من المتقاضين وينفقها على اقتناء أمهات الكتب وإجراء التجارب العلمية فى مجالات عديدة. كان الإعجاب بعبقرية «بيكون» العلمية لا حدود له، فقد قام خلال سنوات انحطاطه السياسى والقضائى بمسح شامل للمعرفة فى الطب وعلم النفس والرياح والفلك والصناعة وحفظ الأغذية والفلسفة والصيدلة.. والأهم من ذلك كما قال «ديدرو» فى تقديمه لدائرة المعارف الفرنسية التى أهداها فلاسفة عصر التنوير لـ«بيكون»: إن هذا العبقرى الفذ كتب تاريخاً لما هو ضرورى أن نتعلمه ونعرفه، وقد كتبه فى زمن كان من المستحيل فيه كتابة تاريخ لما هو معروف! ورغم إدراك معاصريه لقيمته وجدارته العلمية غير المسبوقة فقد شهد البرلمان الإنجليزى ثورة عارمة ضد «بيكون» بسبب مشروعات قوانينه التى لا تختلف عن مشروع قانون تنظيم التظاهر الذى وضعه المستشار أحمد مكى، وشكل البرلمان الإنجليزى لجنة تقصى حقائق تمكنت من حصر 23 حالة فساد ارتكبها قاضى القضاة (لم يكن من بينها تعيين كل أبنائه فى وظائف قضائية ولا إعاقة التحقيق فى البلاغات المقدمة ضد ميليشيات الإخوان، ولا إرغام الطب الشرعى على إصدار تقرير ملفق يدعى أن ناشطاً سياسياً تم تعذيبه حتى الموت على أيدى ميليشيات الإخوان وضباط الشرطة، صدمته سيارة فى ميدان التحرير). آنذاك، فى هذا الزمن الموغل فى القدم، خضع الملك جيمس الأول أمام ثورة أعضاء البرلمان وطلب من فرانسيس بيكون أن يعترف بأخطائه، فاعترف الرجل وحكم عليه مجلس اللوردات بغرامة باهظة وبالسجن لمدة يرضاها الملك، وحرمانه إلى الأبد من تولى مناصب عامة أو عضوية البرلمان.. وفى 30 مايو من عام 1621 سِيق «بيكون» إلى السجن، ولكن الملك أخرجه بعد أربعة أيام وآواه فى أحد قصوره النائية طيلة خمس سنوات، أنتج فيها «بيكون» عدداً من كتبه كان من بينها الجزء الثانى من كتاب «التجديد الكبير» الذى وضع فيه المنهج الجديد للعلم القائم على الافتراض والاختبار والنتائج المؤقتة، وما أن انتشر كتابه حتى بدأت الثورة الصناعية الأولى فى إنجلترا وفى أوروبا كلها. وذات يوم كان فرانسيس بيكون يحاول أن يختبر كم من الوقت يمكن أن يحفظ الثلج اللحم من التعفن.. فاشترى دجاجة وذبحها وحفظها فى الجليد وأثناء التجربة أصابته الحمى، ولكنه كان مأخوذاً بتجربته التى نجحت نجاحاً تاماً فأذهلته عن مرضه.. وبعد يومين فقد حياته وانطفأت الشمعة المتوهجة فجأة فى 9 أبريل عام 1626، ولكن منذ هذا التاريخ تمكنت البشرية بفضله من حفظ الأغذية من الفساد ومن إنقاذ ملايين البشر من الموت جوعاً، ورغم ذلك لم يرحمه التاريخ أبداً، وظل فرانسيس بيكون القاضى والعالم الفذ، تجسيداً خالداً للعظمة والانحطاط وانعدام الشرف فى آن واحد. تُرى.. ما الذى يمكن أن يذكره التاريخ عن قضاة آخرين فعلوا أكثر مما فعله قاضى قضاة جيمس الأول.. ولكنهم فى العلم والمعرفة لا تصل هامة أعلاهم شأناً إلى موطئ قدم فرانسيس بيكون، الذى فقَدَ حياته لكى يحفظ لنا دجاجة من التعفن.. بينما يستمد آخرون وجودهم من تلفيق التقارير عن جثث ضحايا التعذيب المحفوظة فى مشارح رئيسهم الإخوانى؟.