أنا الذى علمتكم الكرامة بـ«الكافيار والأرز بالخلطة»

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

«عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية

من البديهى أن ذلك الشعار الذى ردده الملايين من جماهير الشعب المصرى فى ثورتى (25) يناير و(30) يونيو.. يعبر تعبيراً دقيقاً عن احتياجات شعب فقير يعانى من شظف العيش فى أغلبيته ورقة الحال، ويتوق إلى المساواة فى مجتمع تدمره الفوارق الطبقية الهائلة بين أغلبية جائعة وقلة تكتنز الثروة وتستولى على معظم الدخل القومى. لذلك فقد كان الفقراء هم وقود الثورتين، وبلغ عدد الشهداء منهم فى 25 يناير ألف شهيد. وكانت بوادر تلك الثورة وإرهاصاتها الأولى تلك الحادثة الدالة التى كان بطلها «عبدالمنعم جعفر» الذى حاول الانتحار أمام مبنى مجلس الوزراء لاحتياجه إلى بضعة أرغفة حرمه منها المسئولون عند صرف حصة كشكه الصغير لبيع الفول والطعمية للسائقين على طريق مصر الإسماعيلية.

لكن المتحذلقين والحنجوريين دخلوا فى مساجلات واشتباكات وملاسنات وجدل لا ينتهى ما زال ممتداً حتى الآن محصلتها أن أهم مبادئ الثورتين ليست العدالة الاجتماعية ولكن الكرامة الإنسانية.. ومن ثم يبرز سؤالنا: هل يمكن أن تتحقق الكرامة الإنسانية قبل أن تتحقق العدالة الاجتماعية.. أو بمعنى آخر، أليس تحقيق العدالة الاجتماعية هو الطريق إلى تحقيق الكرامة الإنسانية؟!.

تذكرت تلك القضية وأنا أطالع مقالاً طريفاً للراحل أنيس منصور من كتابه «الكبار يضحكون أيضاً» بعنوان «أنا الذى علمتكم الكرامة بالكافيار والأرز بالخلطة». وفى المقال، باستعراضنا لدلالات فقراته المختلفة المتناثرة والذى لا يربط بينها سوى عنوان عام «هو الكرامة»، ما يدعونا إلى التأمل والاستنتاج.

يقول أنيس منصور إنه تذكّر خطاباً بعث به الأستاذ «عباس العقاد» إلى المحامى «لطفى جمعة» فنشره مع الأسف فى مذكراته، ولم يتقطع قلبى لشىء قرأته قدر هذه الرسالة التى يقول فيها الأستاذ العظيم عباس العقاد: إننى لا أجد قوت يومى، فلا تهرب منى كما هرب كثيرون.. أرجوك أن تفعل شيئاً.. أرجوك.

يا سلام.. هذا «العقاد» العظيم قد كسره الفقر والاحتياج إلى أن يطلب صراحة مساعدة من أحد، أياً كان هذا الأحد. إن الرسالة فاضحة للأدب وللمشتغلين بالأدب والرأى الحر والشجاعة والجرأة حتى يفقد المفكر أصدقاءه فلا يجد إلا الذين يتخيل أنهم قادرون، فإذا بهم قادرون فقط على فضيحته.

وتعليقنا أن العقاد العظيم، الذى كان يلقبه «سعد زغلول» بالكاتب الجبار، لو كان يعيش فى ظل عدالة اجتماعية متحققة تسبغ عليه ما يستحقه كاتب كبير من تقدير مادى يتناسب ومكانته السامقة لما افتقر إلى الإحساس بالكرامة الإنسانية، تلك الكرامة التى أُهدرت مرتين، مرة بطلبه العون ومرة أخرى بتعريته فى مذكرات من طلب منه العون. وأيضاً ما يؤكد ما أرمى إليه من علاقة الكرامة الإنسانية بالعدالة الاجتماعية ما رواه «أنيس منصور» من أنه فى الأدب العربى حكاية أسوأ وأسود وأتعس من حكاية «العقاد». إنها مأساة المفكر الكبير «أبوحيان التوحيدى» الذى أرسل إلى الوزير يقول له: لا أجد طعام يومى.. أعطنى ما عندك.. أذلنى بعطفك.. امسح الأرض بدموعى.. ولكن أعطنى.. إننى أستحق من دنياى أكثر مما يغترفه السفلة والتافهون والأفاقون والمنافقون.. اكسر ظهرى.. حطم رأسى.. ضع رأسى تحت قدميك ثم أعطنى.. أقبل الهوان.. فليست للجائع كرامة.. الكرامات ترف الأغنياء.. أعطنى أرجوك وأنت تضع قدميك على رأسى.. على قلبى.. على قلمى.. أعطنى.

ويعلق «أنيس منصور» على ذلك قائلاً:

أعوذ بالله.. إنه واحد من أعظم المفكرين.. وكتابه «الإمتاع والمؤانسة» من أجمل الكتب، وكتابه «المقابسات» من أعمقها، وفى آخر أيامه أحرق كتبه يأساً من القراءة والكتابة والناس، وأستاذنا «العقاد» باع كتبه بالأقة، فلم يجد من يشترى فأحرقها.. منتهى القسوة على العظماء.

بلا شك أيضاً أن العدالة أسبق من الكرامة.

وفى حكاية ثالثة يقول أنيس منصور: وفى ليلة دعانا «التابعى» إلى عشاء.. ذهبت مع «كامل الشناوى» و«مصطفى أمين» و«على أمين» و«محمد عبدالوهاب» و«أم كلثوم» وكان العشاء الذى ينفرد به هو «السمان» من «دمياط» والمائدة فخمة.. وفجأة انطلق صوت «جمال عبدالناصر» فى ميدان المنشية سنة 1954 وهو يقول: أنا الذى علمتكم العزة (يأكلون) وأنا الذى علمتكم الكرامة (يشربون) أنا الذى.. والذى.. ولم يتوقف أحد عن أكل السمان والأرز بالخلطة والكشك والكافيار.. وما لا أعرف من الأطباق الصغيرة. وكان الجميع صامتين كأنهم يستمعون إلى «أم كلثوم» و«عبدالوهاب»، بل رأيت عبدالوهاب يهز رأسه وأم كلثوم أيضاً.

وقال لنا التابعى إن هذا التسجيل قد أرسله إلى الرئيس «عبدالناصر» فلم تتمكن الإذاعة من تسجيله، وشكره الرئيس على ذلك، وسمعنا منه شكر الرئيس له عشرين مرة، كأنه كان يدعونا لكى يُسمعنا «حادث المنشية» بل يُسمعنا امتنان الرئيس «عبدالناصر له»، وكان فى ذلك الوقت «فرخة بكشك» ثم صار «فرخة» ثم صار «كشكاً».. ثم لم يعد «لا فرخة» ولا هو «كشك».. ويجب ألا يكون.. ليس وحده فى عهد الرئيس «عبدالناصر» ولكنهم كثيرون كانوا «حاجة».. ثم صاروا «ولا حاجة».

والمعنى الذى يمكن أن نستنتجه مع ذلك واضح وجلى.. إن أنيس منصور يريد أن يقول إن المكانة الكبيرة التى كان يحظى بها «محمد التابعى» فى بداية الثورة والتقدير الذى يناله فى ظل قربه من السلطة ومن الرئيس «عبدالناصر» كان يحقق له التميز وعلوَّ الشأن الذى يستحقه، وذلك لأن العدالة -من وجهة نظره طبعاً- لا بد أن تجعله «فرخة بكشك»، وبالتالى تعلو بكرامته فوق الجميع.. لكن ما حدث بعد ذلك هو أن أُلقى به فى الظل وانتهت حياته المهنية مراسلاً صحفياً صغيراً.. بلا هيلمان.. بلا نفوذ.. بلا كرامة.