لماذا ذهبت روسيا إلى القواعد العسكرية بإيران؟

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

عقب حادث سقوط المروحية الروسية الأخيرة بالقُرب من مدينة إدلب فى الأول من شهر أغسطس الحالى، التى راح ضحيتها 5 من العسكريين الروس، استوجب المشهد العسكرى تغييراً تكتيكياً من جانب القيادة العسكرية التى تدير العمليات بالمسرح السورى، لا سيما أن الخطط الروسية المعلنة بصدد التوسُّع فى النشاط العملياتى للبحث عن مجموعة من خطوات الحسم الخاصة بمواقع بعينها، أشهرها «مدينة حلب»، والجدير بذكره أيضاً أن حادث السقوط هذا لم يكن الأول من نوعه، بل سبقه سقوط مروحية فى 24 نوفمبر الماضى، بصاروخ «تاو» أثناء عملية إنقاذ فى مكان تحطُّم القاذفة «سو 24» فى اللاذقية، وأعقبها سقوط مروحيتين فى 12 أبريل و8 يوليو الماضى من طراز «مى 28» فى حمص وتدمر، ليكون المجموع خمس حالات استهداف وسقوط ووفاة الطيارين والعسكريين الموجودين على متن تلك الطائرات التابعة لسلاح الجو الروسى.

التغيير التكتيكى المشار إليه استلزم جهداً استخباراتياً على الأرض قامت به روسيا بمساعدة عملاء تابعين لها على الأراضى السورية والعراقية، ورشحت عنه مجموعة من المعلومات والتقديرات فائقة الأهمية، حيث رصد هؤلاء مراسلات خاصة بتنظيم «داعش»، تتعلق بخطط تطوير صواريخ موجّهة لاستهداف طائرات التحالف الدولى والطيران العراقى والسورى فى العراق وسوريا، تتضمّن خُطط تنظيم داعش، التى يعمل عليها فريق تطوير الصواريخ والتصنيع العسكرى، بالتعاون مع خلية «التنظيم» النائمة فى العاصمة العراقية بغداد، تصنيع صواريخ مزوّدة بكاميرات تتيح دقة توجيه الاستهداف ومزودة بمنظومة تحاكى أنظمة الدفاع الجوى التى أنتجتها مختبرات «رافال» الإسرائيلية، وهو الأساس فى التحكُّم بالاشتباك الجوى المتمثل فى صواريخ الجيل الخامس التى تُستعمل من منصات أرضية أو مقاتلات على مدى 20 كيلومتراً، توصل طاقم الاستخبارات الروسى إلى أن فريق «داعش» يضم عناصر عراقية وعدداً محدوداً من الجنسيات الأجنبية يملكون المهارة التقنية ويعملون لصالح «التنظيم» بأجر سخى، يترأس هذا الفريق قيادى من محافظة «نينوى» العراقية يُطلق عليه اسم حركى بلقب «الصيدلى»، وقد عمل هذا الفريق على التطوير التقنى لهذه الصواريخ فى منطقة «وادى عكاب» غرب مدينة الموصل وانتقلوا منذ فترة وجيزة إلى محافظة «الرقة» السورية عاصمة «التنظيم».

المعلومات الأكثر إزعاجاً التى تمكن الجانب الروسى من الوصول إليها أن عمل الفريق التقنى لتنظيم داعش لم يقتصر على تطوير الصواريخ فحسب، بل عملوا على تصنيع مواد كيميائية يتم تزويدها لقذائف «الهاون» والعبوات الناسفة والمفخّخات، عن طريق تطعيمها بغازات سامة على رأسها «الكلور والخردل» اللذان ثبت استخدامهما فى وقت سابق من قِبَل التنظيم فى هجماته على القوات العراقية والبشمركة قُرب الموصل، ولدى الجانب الروسى أدلة ثبوتية على استخدام آخر لهذه المواد فى الأنبار العراقية وفى الشمال الشرقى لسوريا بالقرب من مدينة «الحسكة» وجنوب بلدة «تل براك»، وحسب الملف المعلوماتى لتطوير الصواريخ الموجهة زودت الخلايا النائمة لتنظيم داعش فى بغداد فريق التطوير بالموصل، بأسعار معدات هذه الصواريخ وكلفتها وكيفية الحصول عليها، فسعر «منظومة التتبُّع» كاملة بأعلى المواصفات قد لا يتجاوز 500 دولار وتكاليف الصاروخ الواحد نحو 1500 دولار، وتشمل خطة الفريق التقنى لتنظيم داعش تصنيع الصواريخ الموجّهة من خلال تزويدها بمنظومة كشف وتتبّع وسيطرة على الطيران، هذه المنظومة مكوّنة من دوائر إلكترونية خاصة بالمعالجة (كمبيوتر دقيق) تضم جزءاً أساسياً يتسلم البيانات من الكاميرا ويعمل على معالجتها، ومن ثم إرسال الأوامر الرقمية إلى دائرة التحكّم بمحركات الزعانف بواسطة نوع من الكمبيوترات المايكروية صغيرة الحجم التى تعمل بجهد 5 فولت، هذه الوحدة الصغيرة يمكن توفيرها بسهولة، حيث يتراوح ثمنها فى بغداد من 30 إلى 50 دولاراً أمريكياً، وحدة السيطرة على هذه الصواريخ تتكون من «بورد إلكترونى» صغير ثمنه لا يتجاوز 30 دولاراً أمريكياً فى بغداد وشريحة «الجايروسكوب» المخصّصة لتحقيق توازن الصاروخ أثناء الطيران لغرض التركيز بسعر 10 دولارات، وعناصر محدودة أخرى ملحقة تشمل بطارية 5 فولت قابلة للشحن لتشغيل الكمبيوتر التى يتراوح ثمنها من 10 إلى 20 دولاراً ومحركات سيرفو بعزم 10 كيلو بقيمة تتراوح من 30 إلى 40 دولاراً، ويستخدم أيضاً الفريق التقنى فى تطوير هذه الصواريخ مجموعة متنوعة ودقيقة من كاميرات ماركة «سونى» المتداولة فى الأسواق بشكل تجارى اعتيادى حسبما ذُكر فى الملف.

وفق تلك المعطيات العسكرية والاستخباراتية ومساحة الأخطار العشوائية التى باتت تُهدّد الساحة السورية، ربما ارتأت القيادة العسكرية الروسية بأنه ليس هناك بدّ من اتخاذ قرار بدا مفاجئاً، ويحمل معطيات استراتيجية واسعة المدى، حيث قامت الثلاثاء الماضى بتنفيذ طلعات جوية بعيدة المدى من قاعدة «همدان» الجوية الإيرانية لتُرسّخ معادلة تعاون عسكرى إضافى مع الجانب الإيرانى، وتتقدّم خطوة لتعادل الوجود العسكرى الأمريكى بقاعدة «إنجرليك» التركية، وفى هذا السياق نشر موقع ستراتفور الاستخباراتى الأمريكى بعد 72 ساعة من تنفيذ الطلعات الجوية الروسية، صوراً جوية ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر أربع مقاتلات من طراز «سو 34» ترافقها على ما يبدو معدات الدعم متاخمة لمدرج قاعدة «همدان» الجوية، ونشر معها تعقيباً مقتضباً يفيد بأن هذا الوجود المستمر لطائرات «سو 34» فى القاعدة، جاء عقب عمليات وصول ومغادرة مؤقتة للقاذفات الاستراتيجية الروسية من طراز «Tu - 22M3»، التى استخدمت القاعدة الجوية فى وقت سابق الأسبوع الماضى لضرب أهداف بشرق سوريا، وأن هذه الخطوة الإيرانية بالسماح للطائرات الروسية بإطلاق عمليات عسكرية من داخل حدودها غير مسبوقة تقريباً.

الاستخدام الأول لقوة أجنبية لمنشآت عسكرية إيرانية منذ عام 1979م، تاريخ الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية، هو ما شكّل عاصفة الدهشة بالداخل الإيرانى قبل الفضاء الإقليمى والدولى، وهى الأولى أيضاً التى تستخدم فيها روسيا قواعد عسكرية خارج سوريا لتنفيذ مهمات وطلعات جوية وهو توطيد فاعل لأقدامها فى الشرق الأوسط بأكمله، الجانب الروسى الرسمى يحاول أن يحصر العاصفة فى نطاق معطيات عسكرية بحتة، لذلك كانت التعليقات الخاصة بالدوافع تبرز مجموعة من المعطيات، أبرزها أن سلاح الجو الروسى كان سابقاً يستخدم مطارات عسكرية بجمهورية أوسيتيا جنوب روسيا كونها مجهّزة لاستخدام تلك الطرازات من الطائرات القاذفة، وانتقالها إلى القاعدة الإيرانية، مما يقلص المسافة من 2000كم إلى 900كم، وهو ما يسمح بفعالية رصد الأهداف المتحركة وسرعة التعامل معها واستهدافها، والعسكريون الروس بالطبع يبحثون عن مستوى أكثر أمناً للطائرات، ربما لا يتوافر نظير له فى «قاعدة حميميم» السورية التى تقع وسط لهيب الخطر، وفى هذا لم يقتصر النشاط العسكرى من خارج الأراضى السورية على العمل الجوى فقط، بل إن الأمر بدا كفصل من خطة عمل متكاملة، حيث لم يكن ينتهى هذا الأسبوع حتى قامت الوحدات البحرية الروسية بإطلاق ثلاثة صواريخ (طراز كروز) بعيدة المدى من البحر المتوسط بواسطة السفينتين «سيرياخوف، زيلينى دول»، وهى أيضاً المرة الأولى التى يتم فيها استخدام البحر المتوسط للقيام بضرب أهداف داخل الأراضى السورية، وهذه المرة كانت صوب شرق مدينة حلب للمواقع التى تسيطر عليها «جبهة فتح الشام» جبهة النصرة سابقاً، فى السابق كان الهجوم البحرى المماثل قد نفّذته روسيا بأسطولها العسكرى الموجود ببحر قزوين عابراً المجال الجوى لكل من إيران والعراق، وقيل حينئذ إنه استعراض للقدرات البحرية فى توجيه ضربات موجّهة بعيدة المدى، وأن طابع العملية إعلامياً محمل برسائل إلى الآخرين بأكثر مما هو مؤثر عسكرياً، وهذا مما يختلف تماماً عما تم تنفيذه هذه المرة من المتوسط، وأصاب أهدافاً مؤثرة فى موازين «معركة حلب» التى تعثر فى فصولها قوات النظام السورى بعد أن حقّق بعض التقدُّم بداية، وفى هذه العملية البحرية التى تُنفّذ من شرق المتوسط لا يمكن تصور أنه قد تم تمريرها بعيداً عن غضّ الطرف الأمريكى، وقبلها بسماح إسرائيلى وفق تنظيم قواعد الاشتباك المرتب والموقّع عليه من رئاستى الأركان «الروسية/ الإسرائيلية» المعنى بالعمليات العسكرية التى تتم على تماس «الفضاء الآمن» لقوات كلتا الدولتين، لذلك فإن إعطاء العملية البحرية طابع المفاجأة هو تصور لا يمت إلى الواقع بصلة، وعلم الطرف الأمريكى والإسرائيلى بها قبل التنفيذ يفتح أبواباً واسعة للتساؤلات عن حجم التنسيق بين الأضداد الافتراضيين، وربما يُقرّب الصورة ناحية الخطوط الرمادية التى تم رسمها على أرض المكون السورى وفضاءاته الجوية والبحرية، التى تُحدّد مساحات الحركة للاعبين منفردين أو مجتمعين، شريطة ألا يحطم أحدهم أوانى فخار تخص الطرف الآخر، أو يتعمّد أن يهشم أى ألواح زجاجية بذريعة عدم القدرة على الرؤية فى الظلام.

تلك الخطوط الرمادية ربما تبحث عن فصل عسكرى قادم يحولها إلى واقع مرئى، بديلاً عن هذا الضباب الخانق، فمعادلة الأرض رغم ما تم إزهاقه من دماء ورصاص تظل تراوح مكانها فانتصار اليوم هو ما يتم هدمه صباح الغد، لكن فضلاً عن تلك الملابسات العسكرية تبقى الخطوة الروسية متغيراً فارقاً، ولها من الدلالات السياسية ما يتجاوز بُعدها العسكرى على أهميته، وتبقى معادلات الإقليم مرشّحة على مجموعة أكثر تعقيداً من التبدُّلات والمخاطر لم تُفصح عن مشاهد نهايتها بعد.