جبهة الإنقاذ الوطنى
كان أول ظهور لتعبير «جبهة الإنقاذ الوطنى» يوم الأحد 18 نوفمبر 2012 فى سياق المواجهة السياسية التى أخذت تتصاعد حول ظروف وآليات كتابة الدستور المصرى، وانسحاب ممثلى القوى المدنية تباعا من لجنته التأسيسية، وذلك فى اجتماع بحزب الوفد حضره رؤساء عدد من الأحزاب السياسية، وبعض الشخصيات العامة، ألقى فى ختامه الأستاذ عمرو موسى بيانا جاء فيه: أنه تقرر تشكيل «جبهة إنقاذ وطنى»، ظهرت الإشارة إليها فى صحف اليوم التالى.
غير أن الظهور الفعلى والقوى لجبهة الإنقاذ الوطنى إنما جاء بعدها كرد فعل مباشر للإعلان الدستورى الكارثى، الذى فاجأ به د. مرسى والإخوان وحزبهم المصريين جميعا -فى 22 نوفمبر 2012- وأسفر بشكل لا لبس فيه عن توجه ديكتاتورى بغيض، متضمنا -كما نتذكر جميعا- بالإضافة إلى مادته الأولى حول إعادة التحقيقات والمحاكمات لمسئولى النظام السابق، تحصينا للقرارات الجمهورية والإعلانات الدستورية، ومجلس الشورى والجمعية التأسيسية، وتغييرا لشروط تعيين النائب العام، وتخويلا للرئيس فى اتخاذ الإجراءات والتدابير الواجبة إزاء أى خطر يواجه ثورة 25 يناير... إلخ. لقد كان لهذا الإعلان تأثيره الصاعق على جميع القوى السياسية، وعلى الجماهير المصرية، ليس فقط لما كشفه من توجه شمولى ديكتاتورى لدى «الإخوان»، وإنما أيضاً لما أحدثه من صدع خطير غير مسبوق فى المشهد السياسى المصرى بين القوى «الإسلامية» والقوى «المدنية»، قد يحمل بذور صراعات غير مسبوقة فى التاريخ المصرى المعاصر! ولم يكن غريبا أن احتشد مئات الألوف من المصريين فى اليوم التالى (الجمعة 23 نوفمبر) فيما سمته بحق «المصرى اليوم»: «انتفاضة 23 نوفمبر»، التى عاد فيها الهتاف الهادر مرة أخرى: «الشعب يريد إسقاط النظام». ولكن هذه المرة ضد نظام الإخوان، فضلا عن هتاف «يسقط حكم المرشد». وتجلى الصراع والانقسام فى أجلى مظاهره عندما احتشد آلاف الإخوان من مناصرى الرئيس أمام قصر «الاتحادية»، الذين خرج د. مرسى يخاطبهم مشددا على أنه سوف يقف لأعداء الثورة بالمرصاد! ولم يكن غريبا أيضاً أن شهد القضاء كذلك عاصفة غضب عاتية على ما اعتبره اعتداء على دولة القانون.
لقد كان ذلك المشهد الدرامى، الذى سوف يقف أمامه تاريخ الثورة المصرية طويلا، هو «الرحم» التى ولدت فيه فعليا «جبهة الإنقاذ»، واكتسبت منه زخمها القوى. وأخذت «الجبهة» تعقد منذ ذلك الحين اجتماعاتها شبه المنتظمة فى مقرات الحزب «المصرى الديمقراطى الاجتماعى» أو «الوفد» أو «المصريين الأحرار»، مبلورة شيئا فشيئا المعارضة الشرعية المنظمة فى مواجهة الحزب الحاكم «الحرية والعدالة»، سواء أمام الرأى العام فى الداخل أو بالنسبة للعالم الخارجى.
عبر هذه الاجتماعات تبلورت الأحزاب التى شاركت فى «جبهة الإنقاذ» فى أحد عشر حزبا، هى: الوفد والتجمع والكرامة والجبهة الديمقراطية والمصريين الأحرار والمصرى الديمقراطى الاجتماعى والدستور والاشتراكى المصرى والتحالف الشعبى الاشتراكى ومصر الحرية ثم المساواة والتنمية، وذلك بالإضافة إلى «التيار الشعبى» وعدد من حركات الشباب والشخصيات العامة.[Quote_1]
إن هذا التكوين لـ«جبهة الإنقاذ» ينطوى على نقاط قوتها ونقاط ضعفها فى آن واحد، فهى -من ناحية أولى- الكيان السياسى الأهم والأكبر أيا كانت نواحى قصورها فى مواجهة الحزب الحاكم وأنصاره، ولكن اتساعها لتضم الغالبية العظمى من الأحزاب والقوى المدنية يجعل منها كيانا فضفاضا يضم أحزابا ذات توجهات متباينة وفقا للتصنيفات السياسية الشائعة فى الحياة السياسية المصرية للقوى السياسية «غير الإسلامية» (أى الليبرالية والقومية والاشتراكية). فإذا كان من المتصور وجود توافق بين الوفد والدستور مثلا أو بين الجبهة الديمقراطية والمصريين الأحرار، فإنه يكون أقل بكثير بينهما وبين أحزاب مثل الكرامة أو التيار الشعبى، أو بينها وبين أحزاب الاشتراكى المصرى والتحالف الشعبى الاشتراكى مثلا. ولكن تظل مواجهة حزب الحرية والعدالة وما يعتبرونه سطوة من الإخوان المسلمين على الدولة المصرية بمثابة الخطر أو التهديد الذى يهددهم جميعا ويدفعهم للعمل المشترك. وربما كانت هذه التعددية فى داخل الجبهة هى التى تفسر درجة «المرونة» -وربما عدم الانضباط- الذى يشوب أداءها.
غير أن مسار الجبهة والتحديات الواقعة عليها نتيجة أنها -فى النهاية- الكيان الوحيد أو الأهم الآن فى مواجهة «التكتل الإسلامى» الحاكم، حتم عليها بالضرورة التوجه نحو مزيد من «المؤسسية»، وكان من المنطقى أن توافق أعضاء «الجبهة» فى اجتماعاتهم الأخيرة على تكليف الأستاذة منى ذو الفقار المحامية المرموقة، التى تولت بالفعل الأمانة الفنية للاجتماعات، بالعمل على «هيكلة» الجبهة ككيان مؤسسى، بالمعنى السليم للكلمة، بما فى ذلك وضع هيكل تنظيمى لها، فضلا عن الإسهام فى بلورة رؤى الجبهة فى المجالات المختلفة، التى يمكن استخلاصها من القواسم المشتركة بين برامج الأحزاب المكونة لها.
هذا على المستوى «الهيكلى» أو البنائى. أما على المستوى «الوظيفى»، فلا شك فى أن الجبهة اضطلعت حتى الآن بدور المعبر أو المتحدث الرئيسى باسم قوى الثورة المصرية، وهو ما تجسد فى البيانات والإعلانات التى صدرت عنها، والتى ربما كان أبرزها بيان الخميس 31 يناير، الذى تضمن المطالب الخمسة الرئيسية للجبهة، والتى تبنتها جمعة «الخلاص» فى اليوم التالى، وهى: التحقيق فى أحداث سقوط الشهداء والمصابين من خلال لجنة تحقيق قضائية وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى تساهم فى رفع المعاناة عن المواطنين وتشكيل لجنة قانونية لتعديل الدستور المعيب الذى فرضه حزب الحرية والعدالة وإقالة النائب العام الحالى ثم أخيراً إخضاع جماعة الإخوان المسلمين للقانون.
غير أن السؤال الأهم هنا، الذى يتجاوز دور إصدار البيانات، هو حول دور جبهة الإنقاذ فى تحريك الجماهير المصرية المعارضة وحشد «المليونيات»، وتقديرى الخاص هو أن هناك مبالغة شديدة لدى البعض فى قدرة الجبهة على إصدار «أوامرها» بالحشد أو التظاهر! فما يحدث الآن فى مصر، فى ظل حالة ثورية ما تزال متأججة، هو أن هناك قدرا كبيرا من المبادرة والتلقائية أصبحت سائدة اليوم لدى الجماهير المصرية، التى تعلمت وتمرست على الاحتجاج الثورى، بما يتجاوز بكثير قدرة أو سلطة جماعة أو أفراد، بما فى ذلك بالطبع «جبهة الإنقاذ». بل إن الواقع هو أن نجاح الجبهة أو مصداقيتها أخذت ترتبط أساسا بقدرتها على «ملاحقة» الحركة الجماهيرية أو التعبير عنها، وليس قيادتها أو توجيهها، وعلى سبيل المثال، فإن أنباء اللقاءات التى تمت مؤخرا بين قيادات من الجبهة وبين بعض قيادات الحكم الإسلامية، وإن قوبلت بارتياح من بعض المواطنين، إلا أنها قوبلت بسخط شديد من كثير من العناصر «الثورية» فى ميادين التحرير، وجعلت الكثيرين منهم يتخلون عنها بل ويعلنون رفضهم لها.
غير أننا إذا تجاوزنا الأحداث الآنية وحاولنا استشراف المستقبل، فربما يكون المشهد الحالى فى مصر -وبصرف النظر عن حدته وتوتره الراهن- هو مقدمة لإعادة صياغة بطيئة للنظام السياسى فى مصر، ليصير فى النهاية نظاما لثنائية حزبية، مثلما هو الحال فى الولايات المتحدة وغيرها، يقوم على حزبين كبيرين؛ أولهما حزب «محافظ»، ينشأ فى رحم «الحرية والعدالة» و«النور» وأنصارهما، والآخر «ديمقراطى»، تمثل جبهة «الإنقاذ الوطنى» الراهنة مرحلته التكوينية الأولى.