مغامرة فى دهاليز «الصناعة المحرمة»

كتب: محمد الخولى

مغامرة فى دهاليز «الصناعة المحرمة»

مغامرة فى دهاليز «الصناعة المحرمة»

خاضت «الوطن» مغامرة بإحدى المناطق التى تتكدس بها مصانع الميلامين المقلد، واخترق محرر الجريدة مافيا الصناعة المحرمة التى تعمل فى الخفاء بإحدى قرى محافظة الدقهلية، متنكرا بصفته شابا يريد إقامة مشروع «مصنع صغير للميلامين». «ويش» هو الاسم الدارج لقرية «أويش الحجر» التى تقع على بعد ثمانية كيلومترات جنوبى مدينة المنصورة، حيث تقلك سيارة «ميكروباص» فى طريق متعرج يمر بعدة قرى صغيرة متناثرة على امتداد أحد روافد النيل التابعة لفرع دمياط. وأمام المدخل الرئيسى للقرية تبدو المهمة صعبة فلا نعرف من أين نبدأ.. لم يكن لدينا شخص نعرفه داخل القرية ليرشدنا. كل ما بحوزتنا من معلومات أن هذا المكان تنتشر به مصانع «مخفية» عن الأنظار. على مقهى صغير فى مدخل القرية، انتظرنا لنرصد حركة سيارات النقل بحثا عن أى خيط، فهى فى الغالب تكون محملة بكراتين وأجولة بيضاء. توقعنا أن لها صلة بمصانع داخل القرية. تتبعنا إحدى هذه السيارات من شارع إلى «زقاق» وطول فترة السير يعلو صوت ضجيج لآلات غير مرئية يخفت الصوت ويعلو من مكان إلى آخر. وفى نهاية ممر ضيق منحدر توقفت السيارة أمام باب حديدى مصمت مغلق بقفل. يؤدى الباب إلى الدور السفلى لأحد المنازل، لكنه يخفى تماما ما وراءه.[Image_2] نزل السائق واقترب من البوابة مترجلا ودق على الباب الحديدى وهو ينادى «يا أستاذ وائل.. يا أستاذ وائل»، أجابه صوت من وراء الباب: «مين؟» فقال السائق: «أنا جبت الكراتين.. افتح الباب عشان أنزلها». خرج وائل من باب آخر للمنزل يجاور الباب الحديدى وهو يحمل بيده مفتاح القفل، وبمجرد أن فتح الباب تعالى صوت ضجيج الماكينات. اقتربنا من البوابة.. لاحظ وائل وجودى فوجه لى التحية، ثم تساءل قائلا: «انتوا اتاخرتوا ليه؟»، معتقدا أننا نعمل مع سائق سيارة الكراتين. جاوبته: «أنا عايز أفتح مصنع ميلامين وعايزك تفيدنى». فأجاب متعجبا: «مين قال لك إن هنا مصنع ميلامين؟!»، فأجبته «توقعت إن دا مصنع ميلامين لما شفت العربية شايلة كراتين ووقفت عند الباب». نظر لى متفحصا وطلب منى الانتظار لحين إنزال الكراتين من على سيارة «نقل صغيرة». بعد انصراف السيارة جاء ليكمل حديثه معى وهو ينظر لى متشككا. قلت: «أنا اسمى محمد من البحيرة وعايز أفتح مشروع مصنع ميلامين عندكم فى ويش». أجابنى وائل: «بص يا أستاذ، أنا مش هاكدب عليك، دى قصة طويلة وأنا هاكلمك فى الصح، فى بلدنا ناس فتحت كتير، كل صنايعى بيتعلم الصنعة بيفتح لنفسه مصنع صغير فى بيته وبيجيب مكبسين مستعملين بـ30 ألف جنيه ويرخص عداد كهرباء تجارى ويعمله 20 حصان على إنه يفتح ورشة خراطة ويقلب النشاط لمصنع ميلامين فى الباطن بعد ما يركب العداد، ويجيب طن بودرة يوريا على أربع شكاير جليز لتلميع بطن الأطباق ويشتغل، عشان كدا تلاقى عندنا أزمة فى العمالة، الصنايعى بياخد فى الأسبوع 300 جنيه وبيشتغل فى اليوم 8 ساعات ومش عاجبه كمان».[Quote_1] توقف وائل حين ناداه صوت من وراء الباب الحديدى هاتفا: «يا أستاذ وائل عايزين شيكارتين بودرة»، تحرك وائل ناحية الباب الحديدى وطلب منى أن أنتظر. تسللت إلى داخل الورشة واخترقت الباب الحديدى متجها ناحية ضجيج مكابس الآلات، فالصوت يأتى من ناحية باب «صاج» اكتشفت أنه يخبئ وراءه عالما آخر.. عالم يكسوه اللون الأبيض، مساحته لا تتعدى مئة متر، ستة مكابس آلية يعمل عليها 3 «صنايعية» كل منهم أمامه ميزان صغير وشيكارة بودرة مفتوحة مكتوب عليها «بودرة كبس يوريا». الرائحة نفاذة للغاية والمكان محكم فلا توجد تهوية جيدة، العمال لا تهمهم هذه الأمور.. يتعايشون مع وضع ألفوه، فيتعاملون مع هذه المادة الخطيرة بدون حرص.. لا يرتدون قفازا ولا يضعون كمامة على أفواههم تقيهم من الرائحة التى تنتشر فى كل أرجاء المكان. همست إلى أحدهم: «إنت مش بتتعب من الروائح دى؟»، رد ببساطة «سيبها على الله». وتابع عمله بمعايرة وزن معين من بودرة اليوريا على الميزان ليضعها فى المكبس ثم يضع بودرة الجليز التى تعطى مظهرا لامعا للطبق من الداخل، ثم يقوم بالضغط على زر كهربائى فيتحرك جزءا الآلة فينطبقان على بعضهما فى درجة حرارة عالية وتنصهر المواد لتأخذ فى النهاية شكل الأطباق.[Image_3] دخل وائل إلى المصنع وأنا أراقب وأتابع عمل الصنايعية. وفجأة وجدته يضرب بيده على كتفى قائلا «إنت بتعمل إيه هنا؟»، فأجبته: «باتفرج»، فطلب منى مغادرة المكان قائلا: «بص أنا مش فاضى، سأدلك على أكبر تاجر عندنا فى البلد جنبى على طول هيساعدك وممكن يوفر لك البودرة كمان، اسمه و.ج». توجهت إلى المصنع الذى أرشدنى إليه وائل. هيئته لا تختلف عن المصنع الآخر فهو أسفل عمارة حديثة البناء تتوافد عليه سيارات مختلفة تقوم بتحميل بودرة «اليوريا» و«الجليز». فى الداخل يجلس عم محمود الرجل الخمسينى على كرسى خشبى وراء مكتب متواضع ينهمك فى «عد» النقود، دخلت إليه فى مكتبه المنفصل عن المصنع.. تحدثت معه طالبا مساعدتى فى إنشاء مصنع. تبادلنا أطراف الحديث لكن استوقفنى تشبيهه لهذه الصناعة بأنها «زى المخدرات ممنوع مزاولة النشاط فيها لأن البودرة المستخدمة فى الصناعة اسمها بودرة يوريا مكتوب على شيكارتها محظور استعمالها فى الأوانى المنزلية، لأنها بتسبب سرطان». يتوقف الرجل عن الحديث مع توقف سيارة نصف نقل أمام المكتب، حيث نزل منها شخص يتحدث مع عم محمود ويطلب منه طن يوريا ويشكو له ارتفاع سعر الطن لأكثر من ثمانية آلاف جنيه. ويقول له عم محمود «إن اليوريا كان سعرها 3 آلاف جنيه ورفع سعرها لحد لما وصل 8 آلاف ونص، وأنا قلت لصاحب المصنع إنه يجيب من الشركة 20 طنا زيادة على الطلبية لأن الطلب زايد اليومين دول وأنا مش عايز المخزن يفضى من عندى». يدفع الرجل حساب البودرة وينصرف ويتولى العمال تحميل الأجولة إلى السيارة، ويستكمل عم محمود حديثه قائلا لى: «عارف الراجل ده جى من كفر الشيخ عشان يشترى من عندنا بودرة فأنا أنصحك إنك لو عملت المشروع ده تعمله هنا فى ويش وأنا عندى المكان فى بدروم ممكن نأجرهولك بس إنت تعمل له عداد كهرباء تجارى 20 حصان وهيكلفك حوالى 12 ألف جنيه وتشترى أربع مكابس بـ45 ألف جنيه.. واتفق مع مصنع كراتين يكتب لك عليها أى اسم إنت عايزه للمنتجات بتاعتك ممكن تكتب عنوانك على الكرتونة بس أغلب الناس بتفضل ماتكتبش عنوان عشان هيا بتبيع حاجة مخالفة فبيكتبوا اسم مصنع مشهور على الكرتونة بيشتغل فى الميلامين الأصلى».[Quote_2] استوقفنى تعبير الميلامين الأصلى، وسألته «هوا فيه ميلامين أصلى وميلامين مش أصلى».. . فأجابنى «اللى إحنا بنصنعه دا مش ميلامين، دا يوريا.. التانى ميلامين أصلى الطن بتاعه بـ15 ألف جنيه، مفيش حد هنا بيستخدمه لأن لو المصانع استخدمته صاحب المصنع هيخسر، وإحنا شغالين على الأسواق الشعبية الرخيصة وكل العرايس فى الأرياف أو الأقاليم لازم بيشتروا ميلامين، والميلامين الشعبى موجود فى كل بيت». الحديث مع عم محمود يظهر أن أى شخص بإمكانه أن يقيم وبسهولة بالغة مصنعا صغيرا للميلامين المقلد دون أى قيود أو رقابة أو تفتيش. بعض أهالى القرية أبدوا انزعاجهم وضيقهم من هذه المصانع لأنها تستهلك قوة كهربائية عالية وتضعف التيار الكهربائى بالمنازل التى لا يوجد بها مصانع. وحسب روايات الأهالى فى القرية فهذه الصناعة ظهرت فى منتصف التسعينات، بسبب وجود مصنع حكومى ينتج مادة «اليوريا فورمالدهايد» على بعد 30 كيلومتر من قرية أويش الحجر بمدينة المنصورة، وتمت خصخصته وبيعه لأحد المستثمرين الهنود منذ عدة سنوات وتوقف عن إنتاج المادة المحظورة لتعرضه لأزمة مالية، لكن بقيت المصانع بمعداتها وعمالها معتمدة على مصنع شهير يصنع المادة المحظور استخدامها فى صناعة أوانى الطعام بمدينة العاشر من رمضان، وتنقل إلى القرية عن طريق سيارات النقل الصغيرة، التى تحصل على أجولة «اليوريا فورمالدهايد» من الشركة المصنعة بهدف مزيف هو استخدامها فى صناعات أخرى غير صناعات أدوات المائدة. صوت ضجيج الماكينات المستمر يؤكد أن هذه المصانع تعمل على قدم وساق فى أويش الحجر. لكن يبدو أن هذا الضجيج لم يصل بعد إلى آذان الجهات الرقابية لتنهض بعملها فى القضاء على هذه الصناعة الخفية التى تضر بصحة المصريين، أو دفعها لتوفيق أوضاعها لتستخدم مواد آمنة. السؤال المهم: كيف يحصلون على اليوريا، إذ من الواضح أن سبب الإشكال ليس فى أن تنشئ مصنعا بقدر ما هو فى قدرتك على الحصول على اليوريا (المادة الخام لصناعتهم الممنوعة)؟ أخبار متعلقة: «الوطن» تكشف..الموت بالسرطان على «طبق ميلامين» «الفورمالدهيد» المادة القاتلة الأصباغ «المحظورة» تتفاعل مع الطعام وتصيب بـ«المرض الخبيث» تسرب عناصر كيميائية خطيرة يهدد الأطفال