«داعش».. بين تراجع القدرة وانحسار النفوذ (1-3)

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

دولة «داعش» توقف تمددها، وبدأت التراجع؛ هُزِمَت فى كوبانى وتل أبيض وتدمر، وتقدمت القوات السورية فى أرياف دمشق واللاذقية الشمالى وحلب، وفى العراق تحررت تكريت والعلم والدور وبيجى والصينية ويثرب بمحافظة صلاح الدين، الرمادى وهيت وكبيسة والرطبة والفلوجة بالأنبار، وكركوك وسنجار قرب الموصل.. خسائر فادحة، قلصت حجم «الدولة» التى أُعلنَت منتصف 2014.. تقرير مؤسسة «IHS» الأمريكية للدراسات التحليلية يوليو 2016، قدر الأراضى التى فقدتها «داعش» فى العراق وسوريا خلال 2015 بـ12.800 كم2 من إجمالى 90.800 كم2 بنسبة تراجع 14%، ارتفعت لـ26% بعد هزائم النصف الأول من 2016، لتتقلص مساحتها الكلية لـ68.300 كم2.. بريت ماكجورك مبعوث أوباما الخاص للتحالف الدولى قدر خسائر داعش بالعراق بـ47% من الأراضى التى كانت تسيطر عليها، مقابل 20% فى سوريا.. التنظيم تقطعت الأراضى التابعة له، وفقد مميزات التواصل فيما بينها، وخسر العديد من طرق الإمداد الاستراتيجية.. الأكراد سيطروا على معبر ربيعة/اليعربية، والعراق استرد معبر الوليد/التنف باستعادته للرطبة، ولم يعد تحت سيطرة «داعش» سوى معبر القائم/البوكمال الذى يسعى التحالف الدولى لإغلاقه.. عدم سيطرة التنظيم على موانئ بحرية، وبدء إغلاق الحدود التركية يضاعف أزمته.

قدرات «داعش» المالية الضخمة ساعدتها على التمدد، لكن خسائرها العسكرية المتتالية أضرت بقدراتها الاقتصادية، وبمناطق نفوذها، عائداتها النفطية تراجعت من 40 مليون دولار شهرياً أوائل 2015، إلى 15 مليوناً حالياً، نتيجة لاستهداف روسيا وطيران التحالف لمنشآتها، وانخفاض أسعار البترول من 6000 دولار للشاحنة، إلى 2000 دولار، لمعادلة مخاطر استهداف الشاحنات.. قرابة 20 غارة استهدفت مصارف التنظيم ومخابئ أمواله، دمرت نحو 800 مليون دولار.. التحالف جمد أصول 30 من كبار ممولى «داعش»، وفرض قيوداً على أنشطتهم، وتوافق على عدم دفع أى فدية عن جرائم الخطف التى يرتكبها التنظيم.. ونسق من خلال اليونيسكو ومجلس الأمن لمنعه من بيع الآثار التى استولى عليها، واستهدف طرق تهريبها، والمعابر الحدودية التى تستخدمها للنقل.. تقلص مساحة دولة «داعش» تراجع بسكانها من 9 ملايين لـ6، ما يعنى فقدان ثلث المجتمع الضريبى.. البنك المركزى العراقى حظر مشاركة 142 مكتب صرافة فى مزادات العملات الأجنبية للاشتباه بصلتها بالتنظيم، والحكومة أوقفت دفع رواتب الموظفين بالمناطق المحتلة لحرمانه مما كان يحصله من ضرائب عليها تتراوح بين 20 و50%، مركز تحليل الإرهاب الفرنسى رصد تراجع الموارد المالية لـ«داعش» بنسبة 17.4% عام 2015 مقارنة بـ2014، نسبة تراجع 2016 لم يتم تحديدها، لكن المؤشرات كارثية.. التنظيم يسيطر على الكثير من الأصول، إلا أن قدرته على تسييلها محدودة، نتيجة لانخفاض القدرة الشرائية لسكان «الدولة».

الصعوبات المالية أدت لتراجع الخدمات، وارتفاع أسعار الطعام والمواد الأولية والمحروقات، ونقص المواد الأساسية والأدوية، مما دفع «داعش» لخفض رواتب المقاتلين ومزاياهم للنصف، والبحث عن موارد إضافية بتحصيل فواتير الماء والكهرباء بالدولار، و500 دولار مقابل تحرير المعتقلين، وفرض غرامات مالية على من لا يلتزمون بالتعليمات حتى فيما يتعلق بالملابس، والاتجاه نحو فرض مزيد من الضرائب والرسوم على الخدمات والأنشطة وغيرها، مما يضاعف حالة التذمر، ويُفقد التنظيم بيئته الحاضنة.

المخابرات الأمريكية قدرت قوة «داعش» فى سوريا والعراق بـ31 ألف مقاتل سبتمبر 2014، لكنها تراجعت فى آخر تقديراتها لـ25 ألفاً، هيئة الأركان الروسية قدرتهم بـ33 ألفاً «19 بالعراق، و14 بسوريا»، المخابرات الفرنسية تتراجع بالتقدير إلى 12 ألفاً، والمخابرات العراقية رصدت بالموصل وحدها قرابة 10 آلاف.. رغم التباين الكبير، يتفق الجميع على تراجع أعداد مقاتلى التنظيم بنسبة الثلث، «داعش» فقدت 20% من كبار القادة والأعضاء خلال المعارك وعمليات القصف الجوى والانشقاقات، ومعدلات تطوع المقاتلين الأجانب تراجعت وفقاً لتقديرات البنتاجون، من 2000 شهرياً 2014، لـ200 خلال 2015.. ورغم عدم وجود تقديرات لـ2016، إلا أن كل التقديرات تؤكد دخول التنظيم فى مرحلة الهجرة العكسية، إما للالتحاق بفرعه فى ليبيا، أو بتنظيمات أخرى معارضة بسوريا، أو للانتشار كخلايا نائمة بدول المنطقة وأوروبا.

«داعش» تواجه أزمة كبيرة على مستوى القيادة، عدد لا يستهان به باع ممتلكاته، وغادر الموصل مصطحباً عائلته لتركيا، بعضهم حصل على موافقة التنظيم مقابل دية بلغت 120 ألف دولار، والآخر صدرت بشأنه مذكرات حمراء بتهمة التخاذل والهروب.. التنظيم يستعد لمرحلة ما بعد سقوط «الدولة»، يحاول الحفاظ على تماسكه، وولاء عناصره، للعودة كجماعة جهادية، نجحت لفترة فى خوض تجربة «الدولة» من منظورها، لكنها لم تدرك أنها لا تمتلك مقومات الدفاع ضد جيوش نظامية ضخمة.. ضعف «داعش» وتراجعها لا يرجع فقط لأسباب عسكرية واقتصادية، وإنما لأنها كـ«دولة» تفتقر منذ البداية لآليات بناء مؤسسات سياسية واجتماعية جديدة وفعالة، لإدارة شئونها، وتحقيق مصالح المواطنين، وكفالة حريتهم ومعيشتهم الكريمة، وافتقدت لعلاقات التعاون وحسن الجوار مع الدول والكيانات السياسية المحيطة، مما دفعها للاعتماد شبه الكامل على التسهيلات التركية، وبتغير موقف الأخيرة أصبح التنظيم معزولاً، خاصة أنه خلق حالة من العداء والتنافر الطائفى أساءت لصورة السنة، ووجه الإسلام السمح ووضع الجاليات الإسلامية فى أوروبا والعالم.. وبقدر ما ولده النجاح المباغت من تطلعات، بقدر ما يسببه الفشل من إحباط، يتحمل «داعش» مسئوليته وتبعاته أمام الأعضاء والمريدين، على النحو الذى سيؤدى لفقدان الثقة فيه، وتحول أشلائه لخلايا وعناصر إرهابية بالغة العنف والشراسة، تستهدف الانتقام، بعد فقدانها الهدف الوهمى.

سوريا كانت قاعدة الانطلاق لاجتياح «داعش» للعراق، لكن تعدد عداءات التنظيم فيها أضر بمستقبل وجوده.. «القاعدة» تحسبت لسقوط داعش بسوريا منذ سنوات، لضعف حاضنتها الشعبية، عززت القدرات العسكرية لـ«النصرة»، دعمتها بالعشرات من كوادرها الجيدة، وشجعتها على فرض نفسها كرأس حربة لنشاط الجماعات المسلحة، وغيرت واجهتها السياسية بإعلان الانفصال، وتبديل الاسم، وتستعد لاستقطاب المرتدين من عناصر «داعش» المتوقع انشقاقهم.

مع هزائم «داعش» وتقلص عائداتها المالية، أصبح أمامها بدائل محددة: الأول العودة إلى حرب العصابات، الثانى البحث عن معاقل بديلة.. وجميعها تضر بمصداقيتها فى أعين المتعاطفين، لأن تخليها عن معقلها بالعراق يهدم فكرة استعادة «دولة الخلافة الإسلامية»، وانسحابها من سوريا يبدد مزاعمها بالاستعداد لخوض «حرب آخر الزمان بين الخير والشر، قرب بلدة دابق السورية»، والمطاردة الدولية للتنظيم ستعجل بتشتته على نحو ما حدث لـ«القاعدة».

إذا كان ذلك مصير «داعش»، فما استراتيجيتها فى مواجهته؟! ذلك موضوع التناول المقبل.